Rahiyma

قال الأب ستيفانو: ثم ماذا علّم محمد الناسَ في مدرسته من أبواب الرحمة؟

قلت: لقد علّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناس في مدرسته الرحمةَ بالضعفاء والمساكين والفقراء وذوي الحاجات والمرضى وأصحاب البلاء. ولو رحتُ أستعرض لك ما ورد عنه في هذا، لضاق بنا الوقت، لكن أحدثك بما يشفي غلتك.. وأوَّله حديثٌ لا يقرؤه مسكين أو فقير أو ضعيف إلا حمد الله سبحانه على ما هو فيه.

قال: ما هو؟

قلت: قال (صلى الله عليه وسلم) داعياً ربه: «اللهم أحييني مسكيناً وأمِتني مسكيناً، واحشرني مع المساكين»[2]. فمن لا يغتبط بالتشبّه برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحبته يوم القيامة؟!

وأردفت: ومِن هذا المنطلق انطلق (صلى الله عليه وسلم) في رحلته مع الضعفاء والمساكين.. منذ بداية بعثته. فقد كان هؤلاء هم الدعامة الأولى في الدعوة الإسلامية، وكانوا من أوائل من آمن بها واحتضنها.. فكان (صلى الله عليه وسلم) يجلس إليهم، ويقربهم إليه.. حتى نقم عليه المشركون من سادة قومه، لاختياره هؤلاء عليهم! فقد روى عبد الله بن مسعود قال: « مَرَّ الملأ من قريش على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعنده صهيب وبلال وعمّار وخبّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين.. فقالوا يا محمد؛ اطردهم، أَرَضيتَ هؤلاء من قومك؟! أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟! أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟! فلعلك إن تطردهم أن نأتيك. قال: فنـزلت: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[3]»[4].

وهكذا سارت رحمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بالضعفاء والمساكين.. لقد أوصاه ربه سبحانه بهم، فهو لن ينسى هذه الوَصاة.. لقد اختارهم على المستكبرين من مشركي قومه، وعقد مقارنة بين الفئتين فقال: «ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار: كل عُتُلٍّ جوَّاظٍ مستكبر»[5].

قال الأب ستيفانو: ومن لا يحب أن يكون ضعيفاً مسكيناً بعد هذا؟!.

قلت: ولم تفتر صحبته (صلى الله عليه وسلم) معهم، بل كانت تزداد مع الأيام.. وطالما رآه الناس يسير مع المسكين، أو مع العبد، أو مع الأرملة، أو مع أيٍّ من الضعفاء.. يسمع منهم، ويخفف عنهم، ويقضي حوائجهم. فقد حدَّث بعض أصحابه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد، حتى يقضي له حاجته»[6].

* * *

وأردفت: وكان (صلى الله عليه وسلم) يدعو المسلمين إلى الرأفة والرحمة بهم، وتقديم يد العون والمساعدة لهم، ومَن فَعَل.. فإنما ينتظره الجزاء الأوفى الذي لا يفوز به إلا المقرَّبون المقرَّبون عند الله.. فقد روي عنه أنه قال: « الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار »[7].

وكيف لا يكون ثواب مَن رحم هؤلاء، وقدّم يد العون لهم، أجزل الثواب، وهم خير عباد الله؟! فقد روي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «ألا أخبركم بخير عباد الله، الضعيف المستضعف ذو الطمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرَّه»[8].

* * *

وأردفت: وكان (صلى الله عليه وسلم) دائم المراعاة لحال الضعفاء والرفق بهم، حتى في شؤون العبادة، فقد روى عنه أبو سعيد الخدري قال: «صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة العتمة فلم يخرج إلينا حتى مضى نحوٌ من شطر الليل. فقال: خذوا مقاعدكم، فأخذنا مقاعدنا. فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسَقَم السقيم - وفي رواية: وحاجة ذي الحاجة - لأخّرت هذه الصلاة إلى شطر الليل»[9].

وروي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن في الناس الضعيفَ والسقيمَ وذا الحاجة»[10].

وقال: «من أَمّ قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة. فإذا صلّى أحدكم وحده فليصلِّ كيف شاء»[11].

* * *

 

وأردفت: ثم كان (صلى الله عليه وسلم) يوصي الأقوياء من الناس بالضعفاء منهم. فقد روي عنه أنه قال لعمر بن الخطاب: «يا عمر، إنك رجل قوي، فلا تُؤذِ الضعيف»[12].

وكان يراعي ذلك هو بنفسه، فقد حدَّث بعض أصحابه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتخلف في المسير، فيُزجي الضعفاء، ويُردف، ويدعو لهم»[13].

بل هو كان يبحث عن الضعفاء ليضمهم إليه ويقربهم منه، ويرغِّب الناس بذلك حتى تعمَّ الرحمة بهم. فقد روي عنه أنه قال: «ابغوني الضعيف، فإنكم إنما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم»[14].

ولهذا كان (صلى الله عليه وسلم) دائم المشاركة للضعفاء في مناسباتهم.. ليعطي القدوة للناس من نفسه. حدّث بعض أصحابه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم»[15].

* * *

وأردفت: ولم تقتصر وَصاته (صلى الله عليه وسلم) برحمة الضعفاء على الصعيد الفردي فقط، بل هو أراد أن تعمَّ الرحمة بهم جميع الأمة عندما قال: «لا قُدِّست أمّة لا يعطى الضعيفُ فيها حقه غير مُتَعْتَع»[16].

فقال الأب ستيفانو: أين منا هذا، اليومَ؟! ومَن يعطي الضعيف حقه غير متعتع؟!

قلت: المحاكم تعطيه حقه غير متعتع، فأبوابها مُشْرَعة لأصحاب الحقوق.

قال: وكيف يصل الضعيف إلى المحاكم، ودونها أجور المحامين، وأجور المعاملات، ورسوم البلديات، ورسوم العقارات... إنه لن يصل إلى حقه إلا بعد أن يكون قد دفع أكثر من قيمته!!

قلت: وأين يكمن العيب؟

قال: العيب يكمن في نُظُم القضاء السائدة في هذه الأيام.. فهي نُظُم لا يُفيد منها إلا الأقوياء الأغنياء.

قلت: وما الحل؟

قال: لو كان لي صوتٌ يُسمَع، لناديت بالإقبال على مدرسة محمد.. ففيها الحل الذي يوصل إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ولو كان جالساً في عُقر داره.

قلت: لعلّ هناك مَن يَسمع.

* * *

وأردفت: أما الفقراء؛ فطالما عُني (صلى الله عليه وسلم) بأمرهم.. حتى أنه خصَّهم بمكان في مسجده، سُمّي (الصفّة)، كان يجتمع فيه فقراء المسلمين، ويبيتون فيه، كي يتنبه الناس إلى وجودهم كل يوم خمس مرات.. فيقدمون لهم ما يفي بحاجتهم ويقوم بأودهم، ريثما يتمكن كلٌّ منهم من السعي على نفسه.

وكان (صلى الله عليه وسلم) يذكِّر المسلمين دائماً بالفقراء ويقول: «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوتَ عورته، أو أشبعتَ جوعته، أو قضيت حاجته»[17].

بل هو نَقَلَ للناس معاتبةَ الله سبحانه لهم يوم القيامة في أمر الفقراء، فبيَّن فيما يرويه عن ربه، في الحديث القدسي، أن الله سبحانه يقول لابن آدم يوم القيامة: «يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمتَ أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدتَ ذلك عندي. يابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي»[18].

* * *

وأردفت: وكثيراً ما رأيناه (صلى الله عليه وسلم) يطيِّب خواطر الفقراء، فينسيهم ألم الفقر وحدّة الجوع؛ بما كان يُغدق عليهم من رحمته ورأفته بهم، وعطفه عليهم.. حتى صاروا يشعرون بأنهم لا يقلُّون مكانةً عند الله عن الأغنياء ، بل لعلهم يتفوقون عليهم. وبذلك زال ألم الفقر ونقمته من نفوسهم[19]، وباتوا راضين هانئين سعداء. فقد روى أبو ذر الغفاري، وكان منهم، قال: قلت: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور - أي الأغنياء - بالأجور، يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها وليس لنا مال نتصدق به. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يا أبا ذر، ألا أعلِّمك كلمات تدرك بها من سبقك، ولا يلحقك من خلفك، إلا من أخذ بمثل عملك؟ تكبِّر الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتُسَبِّحُه ثلاثاً وثلاثين، وتختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. من قالها غُفر له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»[20].

وبعدما جعلهم (صلى الله عليه وسلم) يشعرون بشعور الأغنياء، أمرهم بالصدقة كما أمر الأغنياء، مما مكّن عندهم الشعور بعزة النفس، وكان هذا من أبرّ الرحمة بهم، فقد روى أبو ذرٍّ أيضاً قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «على كل نفس، في كل يوم طلعت فيه الشمس، صدقة منه على نفسه. قلت يا رسول الله، من أين نتصدق؟! وليس لنا أموال. فقال: إن من أبواب الصدقة: التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله. وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظْمة والحجر. وتهدي الأعمى. وتُسمع الأصم والأبكم حتى يفقه. وتدُلُّ المُستَدِلَّ على حاجة له قد عَلمت مكانها. وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث. وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف. كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك»[21].

ثم واساهم (صلى الله عليه وسلم) المواساة التي تطيب بها كل نفس، ويرنو إليها كل مؤمن بالله، عندما قال: «اطّلعتُ في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء»[22].

قال الأب ستيفانو: لكن ألا ترى معي أن مدرسة محمد عالجت مشكلة الفقر بالوعود الأخروية، دون أن تعمل على تغيير الواقع المادي؟ بينما جاءت الشيوعية مثلاً في العصر الحديث، تنادي بضرورة اقتسام الثروة بين الأغنياء والفقراء، لتغير الواقع المادي، وتحقق العدالة في توزيع الثروة.

قلت: على رِسْلِك أيها الأب ستيفانو، فلو درستَ قانون الزكاة والصدقة في الإسلام حق الدراسة، لما قُلتَ ما قلت.

قال: وكيف أدرسه؟

قلت: ادرسه من خلال دراسة تاريخ المجتمع الإسلامي.. في الفترات التي كان يطبَّق فيها القانون الإسلامي حق التطبيق.

قال: فماذا أجد إن فعلتُ؟

قلت: سوف تجد أن قانون الزكاة والصدقة استطاع أن يلغي من المجتمع الإسلامي شيئاً اسمه الفقر.. بل لقد نُسي في طرقات المدن الإسلامية منظر الفقراء والمتسولين.. لأنه لم يعد يراه أحد! حتى أن موظفي الحكومة المختصين بتوزيع الزكاة والصدقة على المحتاجين صاروا لا يجدون من يَقبل منهم ما يوزعونه.. فقد اكتفى الجميع![23]

أتدري ما السبب في هذا؟

قال: ما السبب؟

قلت: لأن تعاليم مدرسة محمد (صلى الله عليه وسلم)، بحسب أوامر الله سبحانه، تقضي بالإيمان بوعود الآخرة أولاً، ثم إلى جانبها الحلال من مكاسب الدنيا، تماماً كما تقول الآية القرآنية: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[24]. وبهذا الاعتدال والتوسط بين الدنيا والآخرة، استمر الإسلام حتى اليوم.. وصار عمره أكثر من /1400 عام/.

فبادر قائلاً: أصبتَ، ولقد برقتْ في ذهني الآن بارقة تقول: إن قوة الإسلام تكمن في ذلك المزج الرائع بين الدنيا والآخرة.

قلت: أما الطريقة الشيوعية التي ذكرتَها، فأنت تعلم أنها فشلت، ولم تُعمَّر سوى أقل من قرن، أتدري لماذا فشلت ولم تُعمَّر؟

قال: لماذا؟

قلت: لأمرين رئيسين، الأول: أنها ألغت الآخرة والحياة الروحية من برنامجها تماماً.

والآخر: أنها عملت على تطبيق العدالة المادية عن طريق مصادرة أموال الأغنياء، وتحويلها إلى جيوب المتسلطين الذين لَقَّبوا أنفسهم (الدولة) وصاروا يوظِّفون هذه الأموال في مشاريع لا يَعرِف عنها الفقراء سوى أسمائها المبثوثة في وسائل الإعلام.. وهكذا، بعد أن كان المجتمع يتألف من الأغنياء الحاكمين، والمتوسطين، والفقراء.. صار يتألف من الأغنياء المتسلطين، والمتوسطين، والفقراء.. أضف إلى هذا تلك الكراهية والبغضاء التي انطوت عليها صدور أفراد المجتمع الشيوعي، أغنيائه وفقرائه، بعضهم تجاه بعض.. فهل حُلَّت مشكلة الفقر؟! وأين هذا من وسطية الإسلام.. ومن عدالة الإسلام.. التي تأخذ من الغني وتعطي الفقير، حتى يتقاربا، والجميع متحابُّون متعاونون عاملون للدنيا والآخرة..

وأردفت: بل أكثر من هذا.. إن الغني المسلم يأبى إلا أن يُخرج من ماله نصيب الفقير منه، فإذا عطَّلت الدولة ركن الزكاة ولم تجمعها من الأغنياء، وجدتَ هؤلاء يعملون على تأليف الجمعيات الخيرية فيما بينهم، لتقوم هي بإحياء هذا الركن، فتجمع الأموال التي يسارع الأغنياء بتقديمها عن طيب خاطر، من زكاة وصدقة.. ثم توزعها على الفقراء.. فيبيت هؤلاء وهؤلاء راضين مطمئنين شاكرين لله سبحانه.

قال الأب ستيفانو: لقد شوّقتني لأن أفكّر بإعداد بحث عن حل مشكلة الفقر في مدرسة محمد.

قلت: لو رجعتَ إلى ما كتبه في هذا مفكرو المسلمين لأرحتَ نفسك، ولوجدتَ ضالّتك.. لكن لا بأس، فلعلك إن قمتَ أنت بإعداد مثل هذا البحث، استطعت أن تُعرّف عليه المجتمع الغربي الذي تعيش فيه.

 

* * *

وأردفتُ عائداً إلى باب الرحمة بالضعفاء: وقد لا يكون الإنسان ضعيفاً ولا فقيراً ولا مسكيناً، بل يكون قوياً غنياً غير محتاج، لكنه يصاب بمرض، أو تحل به مصيبة.. فعند ذلك تضعف نفسه، ويتغلب عليه شعور الإنسان الضعيف.. فيصبح أحوج ما يكون للرحمة والمواساة وتخفيف وقع المصيبة عليه.. ومثل هذا لم تهمله رحمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل لقد علّم الناس في مدرسته أن مثل هذا الإنسان حقيق بأن لا يجد من الآخرين سوى الرحمة، بل لعل الضعفاء والفقراء والمساكين أقدر منه على تحمل القسوة..

ولهذا فقد تتالت الأحاديث النبوية تبيّن كيفية الرحمة بالمريض وصاحب المصيبة، وتأمر الناس بعيادة المريض ومواساة المصاب. فقد قال (صلى الله عليه وسلم): «من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يرجع، فإذا جلس اغتمس فيها»[25].

وقال: «خمسٌ من حقّ المسلم على المسلم: ردُّ التحية، وإجابة الدعوة، وشهود الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس إذا حمد الله»[26].

وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول للناس: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفُكّوا العاني - أي الأسير -»[27].

بل إن عيادة المريض هي من الأهمية بحيث أن الله سبحانه يسأل الإنسان عنها يوم القيامة. فقد رُوي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال في الحديث القدسي: « إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم، مرضتُ فلم تعُدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعُده، أما علمتَ أنك لو عدته لوجدتني عنده »[28]. وهذا تنبيه للمسلم إلى أن عيادة المريض لها من الثواب الجزيل ما لها! عند الله سبحانه.

وكان (صلى الله عليه وسلم) دائماً، يعطي القدوة من نفسه فيزور المريض، ويدعو له بما شاء.. والأحاديث كثيرة في هذا..

* * *

وأردفت: ولعل من أهم مظاهر الرحمة بالمريض، مداواة مرضه، وهذا ما كان (صلى الله عليه وسلم) يأمر به المسلمين دائماً.. فقد روي عنه أنه قال: «إن الله لم يخلق داءً إلا خلق له دواء، عَلِمَه من عَلِمَهُ وجهِلهُ من جَهِلَهُ إلا السّام. قالوا: وما السّام يا رسول الله؟ قال: الموت»[29].

وكثيراً ما كان يذكر للناس بعض الأدوية، مثل الحجامة التي تتصدر اليوم قائمة العلاج في كثير من الأمراض، ومثل الحبة السوداء (حبة البركة) التي اكتُشِف اليوم من منافعها ما يعرف أهميته الأطباء، ومثل العسل وهو غني عن التعريف..

بل هو ذَكَرَ للناس قانوناً طبياً ما يزال الطب اليوم لا يخرج عن مداره، وهو مناسبة الدواء للداء، لِتَحَقُّق الشفاء، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): «لكل داء دواء، فإذا أُصيب دواء الداء، برأَ بإذن الله عز وجل»[30]. أي عندما يُعثر على الدواء المناسب للداء، فلا بدَّ من البُرء بإذن الله عز وجل.

* * *

وأردفت: أما إذا لم يُعثر على الدواء المناسب، ونزل بالمريض ما ينـزل من الآلام، فهنا تتكاثر الأحاديث النبوية مخففة عن المصاب مصابه، سواء أكان مرضاً أم غير مرض،واعدةً إياه بحسن الثواب من الله سبحانه.. حتى ليشعر المصاب أن يد الرحمة تمسح على رأسه، فتبعث فيه الأمل والرجاء، وتَعمُر نفسه بالطمأنينة والرضى. قال (صلى الله عليه وسلم): «ما من مصيبة تصيب المسلم إلّا كفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها»[31].

وقال: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كُتبت له بها درجة، ومُحيت عنه بها خطيئة»[32].

وقال: «ما يصيب المسلمَ من نَصَب ولا وَصَب ولا همٍّ، ولا حُزن، ولا أذى، ولا غمٍّ حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفّر الله بها خطاياه»[33].

بل إن الموت بسبب بعض الأمراض يُعدُّ شهادة يُكتب ثوابها للميت المسلم. قال (صلى الله عليه وسلم): «الطاعون شهادة لكل مسلم»[34].

بل إن على المسلم أن يَسعد إذا أصابته مصيبة من مرض أو غيره.. لما يراد به منها من الرحمة والخير. قال (صلى الله عليه وسلم): « من يُرد الله به خيراً يُصِب منه »[35].

بل ليس السعيد المهنّأ من مات دون أن يَعرِض له مرض في حياته! لأن هذا محروم من تكفير سيئاته. فقد روى بعض الصحابة أن رجلاً مات في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال رجل: هنيئاً له، مات ولم يُبتَلَ بمرض. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «ويحك! وما يدريك لو أن الله ابتلاه بمرض فكفّر عنه سيئاته»[36].

بل لعل الذين يموتون دون أن يبتلَوا أو يصابوا بمصيبة في حياتهم الدنيا يكونون من النادبين سوء حظهم في الآخرة. فقد روي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «يودُّ أهل العافية يوم القيامة، حين يُعطى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض»[37].

فقال الأب ستيفانو: لكنْ ألا يمنع المرضُ صاحبه من عبادة ربه التي كانت له في حال الصحة، فيخسر أجر وثواب هذه العبادة؟

قلت: جواباً على مثل هذا قال (صلى الله عليه وسلم): «إذا مرض العبد أو سافر، كُتب له بمثل ما كان يعمل مُقيماً صحيحاً»[38]. هذا إن منعه المرض من أداء العبادة، أما إن كان يستطيع أداءها بأوضاع غير أوضاعها فلا بأس، ورحمةً به فقد علَّمه النبي (صلى الله عليه وسلم) كيف يؤديها. قال لمريضٍ سأله كيف يؤدي الصلاة؟: «صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»[39].

* * *

وهنا بادر الأب ستيفانو قائلاً بانبهار: أكُلُّ هذه الرحمات في هذا الباب، مِنْ صُنع محمد؟!

قلت: بل هي من صنع الله سبحانه، على يد ولسان محمد (صلى الله عليه وسلم)، فما هذه الأحاديث النبوية إلا تفصيل لما أجملته الآيات القرآنية التي تقول: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ..﴾[40].

والتي تقول: ﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾[41].

والتي تقول: ﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ[42].

والتي تقول: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾[43].

والتي تقول عن المؤمنين: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾[44].

والتي تقول على لسان المؤمنين: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً﴾[45].

والتي تقول عن المتقين: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[46].

والتي تقول عن المصلين: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ{24} لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[47].

 

والتي تقول واصفة الكافر: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ{1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ{2} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾[48].

والتي تقول عن الكافر الذي يصلى نار جهنم يوم القيامة: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ{33} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾[49]، والتي تقول على لسان الكافرين متحدثين عن سبب دخولهم جهنم: ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ{43} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾[50].

قال الأب ستيفانو: حسبي ما ذكرتَه من أحاديث وآيات.. لقد جعلتني مقتنعاً بصحة عبارةٍ قرأتها للمستشرق الإسباني (جان ليك) في كتابه (العرب) تقول: «وقد برهن محمد بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف، ولكل محتاج إلى مساعدة، كان محمد رحمة حقيقية لليتامى، والفقراء، وأبناء السبيل، والمنكوبين، والضعفاء، والعمال، وأصحاب الكد والعناء»[51].

* * *

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] جمعتُ هذه الأوصاف كلها في باب واحد، بسبب ورودها متجاورة في الأحاديث النبوية، وبسبب تقارب معانيها.

[2] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /308.

[3] الأنعام /52.

[4] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /3297.

[5] صحيح البخاري الحديث رقم /5610.

[6] صحيح وضعيف الجامع الصغير للألباني الحديث رقم /9136 وقال عنه: صحيح.

[7] صحيح وضعيف الجامع الصغير للألباني الحديث رقم /5993 وقال عنه: صحيح.

[8] صحيح الترغيب والترهيب للألباني الحديث رقم /2904 وقال عنه: صحيح لغيره.

[9] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني الحديث رقم /618 وقال عنه: صحيح.

[10] صحيح مسلم الحديث رقم /716.

[11] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني الحديث رقم /1134 وقال عنه: صحيح.

[12] مناسك الحج والعمرة للألباني الحديث رقم /32 وقال عنه: هو حديث قوي.

[13] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /2120.

[14] صحيح وضعيف سنن النسائي للألباني الحديث رقم /3179 وقال عنه: صحيح.

[15] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /2112.

[16] صحيح الترغيب والترهيب للألباني الحديث رقم /1818 وقال عنه: صحيح – غير متعتع: أي من غير أن يصيبه قَلَقٌ أو أذىً أو ضرر.

[17] صحيح الترغيب والترهيب للألباني الحديث رقم /2090 وقال عنه: حسن.

[18] صحيح مسلم الحديث رقم /4661.

[19] ولعل مما يصور نظرة المجتمع الجاهلي الدونية إلى الفقير - التي غيّرتها رحمة النبي r به - أبيات عروة بن الورد حيث يقول:

دعيني للغنى أسـعى فإني رأيت الناس شرُّهم الفقيرُ

وأبعدُهم وأهونُهم عليهم وإن أمسى له حَسَبٌ وخِيرُ (فضل)

ويُقصيه النديُّ وتـزدريه حليـلته وينهرهُ الصـغيرُ.

[20] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /100.

[21] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /575.

[22] صحيح البخاري الحديث رقم /3002.

[23] انظر في هذا، الكتب التي عالجت موضوع (الحضارة الإسلامية)، وتلك التي عالجت موضوع (الاقتصاد الإسلامي).

[24] القصص/77.

[25] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /1929.

[26] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /1832.

[27] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني - الحديث رقم /1523 وقال عنه: صحيح.

[28] صحيح مسلم الحديث رقم /4661.

[29] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /1650.

[30] صحيح مسلم الحديث رقم /4084 – وقال المستشرق الإنكليزي (داز) في كتابه (مع الشرق والغرب): «إن قول محمد المأثور عنه: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع) هو الأساس الذي بني عليه علم الصحة، ولا يستطيع الأطباء على كثرتهم ومهارتهم حتى اليوم، أن يأتوا بنصيحة أثمن من هذه».

[31] صحيح البخاري الحديث رقم /5209 - صحيح مسلم الحديث رقم /4667.

[32] صحيح مسلم الحديث رقم /4664.

[33] صحيح البخاري الحديث رقم /5210 - صحيح مسلم الحديث رقم /4670.

[34] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني - الحديث رقم /1545 وقال عنه: متفق عليه.

[35] صحيح البخاري الحديث رقم /5213.

[36] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني - الحديث رقم /1578 وقال عنه: صحيح.

[37] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني - الحديث رقم /1570 وقال عنه: حسن.

[38] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني - الحديث رقم /1544 وقال عنه: صحيح.

[39] إرواء الغليل للألباني ص 299 وقال عنه: صحيح.

[40] البقرة /177.

[41] الحج /28.

[42] الحج/36.

[43] الضحى /9-10.

[44] الإنسان /8.

[45] الإنسان /9.

[46] الذاريات /19.

[47] المعارج /24-25.

[48] الماعون /1-3.

[49] الحاقة /33-34.

[50] المدثر /43-44.

[51] ص43.

تابعونا على المواقع التالية:

Find موقع نبي الرحمة on TwitterFind موقع نبي الرحمة on FacebookFind موقع نبي الرحمة on YouTubeموقع نبي الرحمة RSS feed

البحث

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

البحث

رسالة اليوم من هدي الرسول

-         فضل الصف الأول:

عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة  رواه أحمد وصححه ابن خزيمة

 يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ، قال : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام رواه أحمد وقال  ابن كثير  : إسناده جيد  

فضل المدينة وسكناها

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

برامج إذاعية