لازم الرفق محمدًا (صلى الله عليه وسلم) في مختلف أحواله؛ في الغضب والرضا، في السعادة والحزن، وحتى في وقت الآلام والمضار.فيوم تشتد به الخطوب ويدميه قومه يدعو لهم: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون». ويوم يطلب منه بعضهم أن يدعو على من آذاه، فإذا به يقول: «إني لم أُبعث لعّانًا»([1])، فغلبت رحمته غضبه، وغلب رفقه شدته.لقد أدرك محمد (صلى الله عليه وسلم) أن اللفظ القاسي يورد الفعل القاسي، وصاحب القلب القاسي إنما هو سبب نفور الناس وتحاشيهم القرب منه والتفاعل معه.والمتأمّل في القرآن يجد أنه قد عظَّم مقام الرفق وأمر به، بل قد نّبه محمدًا (صلى الله عليه وسلم) إليه كما قال تعالى: (آل عمران: 159).كما حثَّ القرآن على اعتماد الرفق خيارًا مبدئيًّا في نهج الدعوة إلى الإسلام، وعدّه ركنًا وأساسًا مهمًا يقوم عليه العمل الرسالي للفكر والعقيدة الإسلامية كما وجَّه الله تعالى محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بقوله:(الحجر: 88 ). أي ألِن لهم جانبك وارفق بهم، والعرب تقول: فلان خافض الجناح إذا كان وقورًا حليمًا. وهي دعوة إلى لطف الرعاية، وحسن المعاملة، ورقّة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن في التعبير.
وأمر الله تعالى به كذلك في التعامل مع المخالفين، فقال تعالى: (المزمل: 10). والهجر الجميل: أن لا تتعرّض لخصمك بشيء، وإن تعرّض لك تجاهلتَ، فقد أمره بالصبر على ما يسمعه من الأقوال البذيئة من خصومه، صبرًا لا عتاب فيه على أحد، ولا تكبُّر، أو دفاع عن الذات، بل تركهم إلى الله مع الهجر الجميل الذي لا يترك في نفوسهم أذًى يحول بينهم وبينه مستقبلاً، فلا يُقبلوا عليه ولا يسمعوا هديه، بل كان هجرًا جميلاً لم يقطع خيوط المودة، ولم يهدم جسور التواصل.ويذكر الله تعالى ما بين الرفق والتعامل الحسن، وبين الفظاظة والإساءة: (فصلت: 34). فالمعنى ها هنا: أن اصبر على الأذى، واكظم الغيظ الذي تبتلى به، واحلمْ عمن أساء إليك، وتعاملْ مع مصدر آلامك تعاملَ العطوف الكريم برفق ولطف يمس قلوبهم القاسية، فيحولها من قسوتها وجفوتها عليك إلى محبة لك، وإن اعتماد منهجية الرفق مع الأعداء إلى الحدّ الذي يجعل الفرد الواحد أمام أعداء دعوته ؛ فإنه بذلك يستقطب مجامع قلوبهم إليه حتى تصير آذانًا صاغية لهديه وإرشاده، فيستنقذها مما هي فيه.
كما بّينت الآيات أن الرفق هو دأب الأنبياء؛ فإن الله تعالى لما أرسل نبيه موسى وأخاه - عليهم السلام - إلى فرعون الطاغية قال لهما: (طه: 43-44). وتصل الآيات إلى غاية الرفق وعظم اللين والسهولة في حال إبراهيم -عليه السلام-، حين دعا أباه إلى الإسلام فصرخ به وقال كما حكاه الله تعالى: (مريم: 46). فردّ إبراهيم بكل رفق ولين قائلاً: . فكان الأنبياء - عليهم السلام - يصِلون بالرفق واللين إلى ما لا يصِل إليه غيرهم كما بيّنت الآيات.
رؤية محمد (صلى الله عليه وسلم) لخُلُق الرفق:
لقد نظر محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفق على أنه خُلُق أساس في تكوين شخصية المسلم، فعلَّم أمته أن الله يحب صاحب الرفق، ويحب السلوك الرفيق كله، فيقول: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله»([2]).وعلمهم أن الرفق يزين الأمور فقال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيء إلا شانه»([3]).وكان كثيرًا ما يدعو لأصحاب الرفق فيقول: «اللهم من رفق بأمتي فارْفق به»([4]).وجعل الرفق نوعًا من النعم الغالية التي إذا دخلت على أهل بيت فليعلموا أن الله قد أراد بهم خيرًا، فقال: «إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق»([5]).ونتائج
عندما يعمّ الرفق الحياة:
أكد محمد (صلى الله عليه وسلم) على الرفق والسهولة في جميع التعاملات مهما عظمت، ومهما كان المتعامل معه، تحكي زوجته عائشة - رضي الله عنها- موقفًا مع بعض خصومه فتقول: دخل رهط من اليهود على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: السام عليكم (يعني الموت عليكم). قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله»([10]).ولما دخل أعرابي المسجد وبال فيه، قام الصحابة إليه ليمنعوه، فمنعهم محمد (صلى الله عليه وسلم) وقال: «لا تعجلوا عليه»، حتى إذا أنهى بوله وقام ليذهب، دعاه وقال: «إن هذه المساجد لم تُبْنَ لهذا، وإنما بُنيت للصلاة والذكر والتسبيح». ثم ذكر محمد (صلى الله عليه وسلم) في ذلك مثالاً بديعًا لأصحابه فقال: «إن مَثَلي ومثل هذا الأعرابي، كمثل رجل شردت عليه ناقته فقام الناس يشتدون خلفها وهي تشتدّ هاربة، والرجل يصيح: خلوا إليّ ناقتي. حتى إذا تفرقوا عنه عمد إلى شيء من خشاش الأرض، ثم جعله في ثوبه ورفعه إليها، ودعاها فلم يزل بها حتى جاءته».ويروي معاوية بن الحكم قال: لما قدمت على رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) علمت أمورًا من أمور الإسلام، فكان فيما علمت أن قال لي: «إذا عطست فاحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله فقل: يرحمك الله»، قال: فبينما أنا قائم مع رسول الله في الصلاة إذ عطس رجل فحمد الله، فقلت: يرحمك الله، رافعًا بها صوتي، فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، فقلت: ما لكم تنظرون إليَّ بأعين شزر؟! قال: فسبحوا، فلما قضى رسول الله الصلاة قال: « مَن المتكلم؟!» قيل: هذا الأعرابي، قال :فدعاني رسول الله فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»- أو كما قال رسول الله محمد -.([11])
([1])أخرجه مسلم (2599).
[2])أخرجه البخاري (6024)، ومسلم (2165).
([3])أخرجه مسلم (2594).
([4])أخرجه أحمد (23816).
([5]) أخرجه أحمد (23906).
([6])أخرجه مسلم (2593).
([7])أخرجه مسلم (2529).
([8])أخرجه البخاري (3038)، ومسلم (1733).
([9])أخرجه الترمذي (2488).
([10])أخرجه البخاري (624)، ومسلم (2165).
([11])أخرجه مسلم (537).