حياته بإيجاز
لقدْ خَاض النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) غِمَارَ الدَّعوةِ, وَسَلك مَفَاوِزَ النَّصِيحةِ, وَاقتَحم مَيادِينَ الْإِرشَادِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلى عِبادَةِ اللهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتركَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آباؤهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَعِبادَةِ الْأَوْثَانِ, وَدُعاءِ الْأَصْنَامِ، وَأَمرَهُمْ بِتَرْكِ المنْكَراتِ, وَهَجْرِ المحَرَّمَاتِ, فَآمَنَ بِه القليلُ, وَكذَّبَه الكثيرُ.
إِنَّ مِنْ لَوازِم الإيمَانِ مَحَبَّةَ سيِّدِ الأَنَامِ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم), وَكَيْفَ لَا يُحِبُّ المسْلِمُ نبيَّه, وَهُوَ السَّببُ فِي هِدَايتِه إِلَى طَريقِ النُّورِ وَالإيمَانِ, والسَّبَبُ فِي نَجاتِه مِنَ الكُفْرِ والنِّيْرَانِ!
قَالَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" [مُتَّفقٌ عليْهِ].
إِنَّ أعْظم عَلامَاتِ نُبوَّةِ نبيِّنا مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ القرآنُ العَظِيمُ، ذَلك الكتابُ الَّذِي انزله الله عليه وتحدَّى بِه العربَ وغيرَهُم – إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ – أَنْ يَأْتُوا بمثْلِه، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }[البقرة: 23]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس
كَان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) كثيرَ العِبادةِ مِنْ صلاةٍ وصيامٍ وذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وغيرِ ذَلك مِنْ أَنْوَاعِ العِبادةِ, وكانَ (صلى الله عليه وسلم): إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أثبتَه, وَحَافظَ عَلَيْهِ، فَعَنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا فَاتَتْه الصَّلَاةُ مِنَ اللَّيلِ مِنْ وَجعٍ أَوْ غيرِهِ، صَلَّى مِنَ النَّهارِ ثِنْتيْ عَشْرَةَ رَكْعةً [رَواهُ مُسْلِم].
رَجعَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلى مكَّةَ، بَعْدَمَا قابلَه أهلُ الطَّائِف بالسُّخْرِيَةِ والاسْتِهزاءِ, وَدخلَها فِي جِوار المُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ..
وَفي وَسط هَذا الجوِّ المشْحونِ بالتكْذِيبِ والحصَارِ والقهْرِ، أَراد اللهُ تَبارك وَتعالى أَنْ يُثَبِّتَ رسولَه (صلى الله عليه وسلم)، فَأكْرَمَه بالإسْرَاءِ وَالمعْرَاجِ, وَأَراهُ مِنْ آياتِه الكُبْرى، وَأطْلَعَهُ عَلى دَلائلِ عَظمَتِه وَآياتِ قُدرَتِه, لِيكُونَ ذَلِكَ قوَّةً لَه في مواجهةِ الكُفْرِ وأهلِه.
لمَّا اشتدَّ الْأَذى بأصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم), أَذِن رسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) لهمْ بالهجْرَةِ إِلَى المدينةِ, وَكَانَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) قدْ اطْمأنَّ بأنَّ الدَّعْوةَ قَدِ انتشرتْ فِي المدينةِ, وَأَنَّها قدْ أَصبَحَتْ مُهَيَّأَةً لاسْتِقبالِ المهَاجِرينَ.
فَبادَر المؤْمِنُونَ إِلَى الهجْرَةِ, وَخَرجُوا أَرْسَالاً يتْبع بعضُهُم بَعضًا.
وَبَقِي النبيُّ (صلى الله عليه وسلم)، وَبَقِي مَعه أَبُو بكْرٍ وَعَليٌّ، وَكذلِكَ مَن احْتَبَسَهُ المشْرِكُون كُرْهًا.
لقدْ علِمَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) حقيقةَ الدُّنيا، وسرْعَةَ زَوالِها وانْقِضائِها, فَزهد فيها وعَاشَ فِيها عَيشَ المسَاكِينِ لَا عيشَ الْأَغْنِياءِ المتْرَفِينَ, يجُوعُ يَومًا فيصْبِرُ, وَيشْبَعُ يَومًا فيشْكُرُ.وَقَدْ بيَّن النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) لأمَّتِه خُطورَةَ الفتْنةِ بِالدُّنْيَا، والانْغِماسِ فِي شَهواتِها ومَلذَّاتِها، فَقَالَ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخِلَفُكُم
دَخَلَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) المدينةَ, فَتَلَقَّاهُ أَهْلُها بِالبِشْرِ والتِّرْحَابِ، وَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) لَا يَمرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأنْصَارِ إِلَّا أَخَذَ صَاحِبُها بِخِطَامِ رَاحِلتِه وَدَعَاهُ إِلَى النُّزولِ عِنْدَهُ، فَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) يعْتَذِرُ إِليهِمْ وَيَقُولُ: خَلُّوا سبيلَها فَإِنَّها مَأمُورةٌ, فَلَمْ تَزلِ النَّاقةُ سَائِرةً بِهِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مَوْضِع مَسْجِدِهِ فبرَكتْ, ثُمَّ نَهضَتْ، فَسارتَ قَليلاً, ثُمَّ رجعَتْ إِلَى الموْضِعِ الأوَّلِ فَبركَتْ, فَنزلَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلى أَخْوالِه فِي بَني النَّجَّارِ، وَقَالَ (صلى الله
فِي رَمضانَ مِنَ السَّنةِ الثَّانِيةِ وَقعتْ غَزوةُ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَسببُها أَنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) خرجَ ومعهُ ثلاثُمائةِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً ليعتَرِضَ عِيرًا عظِيمةً لِقريْشٍ وَهِيَ رَاجِعَةٌ مِنَ الشَّامِ.وَكَان
فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الهجْرَةِ وَقَعَتْ غَزوَةُ أُحُد، فَإِنَّه لمّا قَتَلَ اللهُ أشْرافَ قُريْشٍ ببدْرٍ، وَأُصِيبوا بمصِيبةٍ لَم يُصَابوا بمثْلِها، أَرَادَتْ قُريشٌ الثأْرَ وَاستِعادةَ هَيبَتهِمُ الَّتِي فَقَدُوها، فَأخذَ أَبُو سُفيانَ يُؤلِّبُ عَلى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى المسْلِمِينَ، ويُجمِّع الجمُوعَ، فَجَمَع قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ قُرَيْشٍ, والحلَفاءِ والأَحَابِيشِ، وَجَاءُوا بِنِسائِهم لَئلَّا يَفرُّوا, وَلْيُحامُوا عَنهُنَّ, ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِمْ نَحوَ المدِينةِ, فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ جَبلِ أُحُدٍ.