Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          المنصفون يثنون عليه:كان أبو سفيان وتجار من المشركين في الشام، فدعاهم هرقل ليسألهم عن هذا النبي، فكان مما سألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان:لا، ثم قال هرقل:لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله! رواه البخاري. لقد جبل نبينا  على النفور من الكذب والغدر،فكان هذا من دلائل صدق نبوته ثم كان من أسباب ظهور دينه.قال هرقل في آخر القصة:فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية

 مها الجريس

لــم يكن مجتمع الإسلام الأول إلا خليطاً من أصناف البشر، فيهم العالم والجاهل والحاضر والبادي واللين والغليظ. وكانوا على اختلافهم يجدون من فيض رحمته صلى الله عليه وسلم ما يأخذ بأيديهم إلى جادة الصواب بلا قسوة ٍولا شدة. ومن يقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم يتملّكه العجب من بعض تلك المواقف، فلم تكن سفاهة السفيه وجهل الجاهل تزيده إلا رحمةً وحلماً وصبراً وأناةً وسعة بالٍ. دخل عليه أعرابيٌ ذات يوم ٍمن أهل الصحراء وهو في مسجده وبين أصحابه فاتجه إلى زاويةٍ من المسجد وبال فيها، تماماً كما يفعل في الصحراء. فما كان من الصحابة إلا أن همُّوا بزجره وإيقافه لئلا يلوِّث المسجد بنجاسته، فقال صلى الله عليه وسلم: (دعوه لا تُزْرِمُوه!)[1] ثم دعا بماء فصبه عليه، الأمر الذي جعل الأعرابي يخجل من نفسه ويستنتج بفطرته الفرق الشاسع بين رحمته صلى الله عليه وسلم واستعجال أصحابه. وها هو أعرابي آخر يدخل صلاته مع النبي الرحيم فما كان منه إلا أن رفع صوته وهو في الصلاة يقول: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فتبسم صلى الله عليه وسلم من بساطة الأعرابي وصدق قلبه فقال: (لقد حجّرتَ واسعاً)[2] يريد رحمة الله. وما الذي جعل الأعرابي يتذكر رحمة الله ويدعو له بها لولا أنه ذاق من رحمته صلى الله عليه وسلم ما سرّ قلبه وجبر فؤاده وتحمّل جهله.
 
وهذا أعرابيٌ آخر يسجل موقفاً آخر من مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم بالجاهلين وتلطفه معهم. عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكتُّ. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)[3]. وحين أتاه عليه الصلاة والسلام من الجاهلين رجلٌ غليظُ الطباع وجذبه من ردائه حتى أثّر في صفحة عنقه وكان يرتدي بُرْداً نجرانياً غليظ الحاشية، لم يعنفه ولم يدفعه عنه بيده ولم يزجره ولم ينهه، بل تبسم بوجهه صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذةً حتى رأيت صفح أو صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته فقال يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء)[4].
 
لقد حرص صلى الله عليه وسلم على استمالة قلوب الجاهلين والذين أسلموا حديثاً بعد فتح مكة عن طريق المال والغنائم فأعطى عطاياً كثيرةً لأقوامٍ في نفوسهم من الدين حرج وذلك كله رحمة بهم وتثبيتاً لقلوبهم التي كان حب الدنيا فيها أقوى من أي شيء. فأعطى أبا سفيان مائةً من الإبل وأربعين أوقيةً من الفضة فقال أبو سفيان: وابني معاوية؟ فمنح مثلها لابنه معاوية فقال: وابني يزيد؟ فمنح مثلها لابنه يزيد. وقد قال صفوان بن أميه: ما زال رسول الله يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله شيئاً أحب منه[5]. وكان هذا كله من رحمته صلى الله عليه وسلم وحكمته في الدعوة إلى الله فإن أقواماً لا يقودهم إلى الحق إلا المال وآخرون لا يقودهم إلا الجاه، وهكذا. فشأن الرحيم بأمته أن يسلك مع كل النفوس مسالك الرفق والرحمة لأنه أولا وآخراً هو من قال عنه ربه تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ[6].
 
وكان صلى الله عليه وسلم لا يزيد بجهل الجاهل إلا حلماً. وكان هذا من آيات نبوته التي كانت سبباً في إسلام البعض كما حدّث بذلك أحد اليهود الذين أسلموا وكان من أحبارهم وهو زيد بن سعنة رضي الله عنه وقد قال: ما من علامات النبوة  شيء إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا خصلتين لم أخبرهما منه؛ يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً. فذكر قصة مبايعته التمر إلى أجل ومقاضاته إياه عند استحقاقه وأنه التقى به يوماً وأخذ بمجامع قميصه وردائه ونظر إليه بوجه غليظ وقال: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب لَمُطْل. يقول: فنظر إلي عمر فإذا عيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم قال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله ما أسمع وتفعل ما أرى؟. فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله صلى الله عله وسلم ينظر إلى عمر رضي الله عنه في سكينة وتؤدة وتبسم ثم قال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر)[7]. وجاءه أعرابي يطلبه شيئاً فأعطاه ثم قال له: (هل أحسنت إليك؟) قال الأعرابي: لا ولا أجملت!. فغضب المسلمون لمقالته وقاموا إليه ليضربوه على سوء أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم أن كفوا ثم قام فدخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً ثم قال له: (أحسنت لك؟) قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. قال صلى الله عليه وسلم: (إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك). قال: نعم. فلما جاء من الغد أو العَشِيّ جاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي، أكذلك؟). قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت فأتبعها الناس فلم يزدها إلا نفوراً فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردّها حتى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحله واستوى عليها وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار)[8].
 
إنها مدرسة تربوية نفسية متكاملة كان يتعلم منها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كيف يتراحمون ويتواصلون مع الآخرين مهما اختلفوا معهم.

[1] سنن النسائي 53 وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (1/197 ) ومعنى لا تُزْرِمُوه أي لا تقطعوا عليه بوله
[2] صحيح البخاري 5551
[3] صحيح مسلم 836 ومعنى كهرني أي زجرني وعنَّفَني.
[4] صحيح البخاري 2916
[5] صحيح مسلم بشرح النووي ( 7/75 )
[6] سورة الأنبياء / الآية 107
[7] رواه الطبراني وابن حبان وصحح القصة الحاكم في مستدركه وذكرها ابن القيم بطولها في زاد المعاد (1/166-167) وابن كثير في السيرة (1/ 295)
[8] رواه البزار 2476 وضعفه الهيثمي في الزوائد (9/19)