في الفصول السابقة مر بنا كيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم بالرحمة مع غير المسلمين، وذكرنا مواقفه مع من آذاه، وكذلك مع الأسرى الذين كانوا يُقاتلونه منذ ساعات، وهو ما يكاد أن يكون نادرًا تمامًا في تاريخ أيِّ أمة من أُمَمِ الأرض.
وإذا كانت الصور السابقة من صور الرحمة نادرة، فإن الصورة التي سنتناولها في هذا المبحث تكاد تكون مستحيلة!!
إننا سنتناول في هذا الفصل رحمته صلى الله عليه وسلم مع زعماء الأعداء الذين قاوموه وحاربوه سنواتٍ عديدة.. سنتناول رحمته مع أولئك الذي جَيَّشُوا الجيوش، وحزَّبُوا الأحزاب لاستئصال شَأْفَةِ المسلمين..
سنتناول رحمته مع أولئك الذين لم يَكْتَفُوا بالسخرية منه والكيد له، بل حفَّزوا الآخرين على فعل ذلك، وكانوا في فترة من فترات حياتهم أكابر المجرمين، وقادة الضالّين..
بل إننا سنتناول رحمته مع أولئك الذين دبَّروا المحاولات تلو المحاولات لقتله هو شخصيًّا، فما ترك ذلك في قلبه حقدًا، وما أورث غِلاًّ، وما غيَّر من أخلاقه المعهودة، ولا من طبيعته الرقيقة صلى الله عليه وسلم ..
وعلى الرغم من بروز رحمته صلى الله عليه وسلم مع كل زعماء الكفر الذين حاربوه، سواء من أهل مكة، أو من أهل الجزيرة بصفة عامة، إلا أننا سنكتفي في هذا الفصل بالحديث عن رحمته بزعماء مكة عند التمكن منهم، وذلك لسببين، أما الأول فهو الالتزام بحجم معين لهذا البحث مما يَصْعُبُ معه تَتَبُّع مواقفه العظيمة صلى الله عليه وسلم مع كل قادة الكفر من كل القبائل، وأما السبب الثاني فهو أنه إنْ ظهرت لنا رحمته صلى الله عليه وسلم مع أولئك الذين حاربوه أكثر من عشرين سنة، وطردوه هو وأصحابه من ديارهم، وصادروا أموالهم، وانتهكوا حرماتهم، وقتلوا منهم، ومثَّلوا بهم، إنْ رأينا رحمته مع هؤلاء فلا شكّ أنّ رحمته مع الآخرين أظهر، وعفوه عنهم أوسع.
لذلك سنعرض في هذا الفصل لبعض المواقف له صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة، وبعد أن أصبحت أزمَّة الأمور في يديه، لنرى كيف يكون العفوُ عند المقدرة، والرحمةُ عند الانتصار والغلبة، وسوف ينقسم حديثنا في هذا الفصل إلى ستة مباحث هي:
المبحث الأول: رحمته صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان
المبحث الثاني: رحمته صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل
المبحث الثالث: رحمته صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية
المبحث الرابع: رحمته صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو
المبحث الخامس: رحمته صلى الله عليه وسلم مع فضالة بن عمير
المبحث السادس: رحمته صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة