Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-        الرفق بالناس:

قال (صلى الله عليه وسلم): (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به). رواه مسلم. وهذا في كل ولاية، كبيرة أو صغيرة، عامة أو خاصة، والحديث، كما قال النووي، من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
hiwar2_thumbnail.jpg

فمن آداب الحوار، وأسباب رقيه، وجعله نافعاً مؤدياً للغرض _ رفع الإنسان من شأن محاوريه.

ويتمثل ذلك الأدب العظيم بأمور منها: إنزال المحاورين منازلهم، والتسليم لهم، والأخذ بآرائهم إذا أصابوا المرمى.

ويتمثل _أيضاً_ بالاستماع إلى شبهاتهم، واستنباط آرائهم، إلى غير ذلك مما سيأتي تفصيله.

ولقد كان _عليه الصلاة والسلام_ متمثلاً ذلك الأدب، آخذاً به على أحسن ما يكون، وفيما يلي بيان لذلك:

1_ إنزاله "المحاوَرين منازلهم: فذلك من أعظم آداب الحوار، ومن أنجع الأساليب التي ترقى به؛ فيجمل بالمحاور أن يعطي كلَّ مَنْ يحاوره منزلته اللائقة به من الإجلال، والإكرام؛ فذلك أدعى لقبول الحق، والإذعان إليه.

وذلك الأدب أدب نبوي؛ فقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت: =أمرنا رسول الله " أن ننزل الناس منازلهم+([1]).

فمن إنزال المحاور منزلته أمور منها:

أ_ التعرف على أسماء المحاورين: إذ يحسن بالمحاور أن يتعرف على من يحاوره فرداً كان أو مجموعة.

ولقد كان _ عليه الصلاة والسلام _ يعنى بهذا الأمر عناية بالغة، فكان يسأل عن اسم الغريب إذا وفد إليه، أو التقى به.

ومن شواهد ذلك ما جاء في حديث وفد عبدالقيس لما وفدوا على النبي" فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: =إن وفد عبدالقيس لما أتوا النبي" قال: =من القوم، أو من الوفد؟+ قالوا: ربيعة، قال: =مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى+([2]).

وكان سبب استفساره هو الرغبة في التعرف عليهم؛ لينزلهم منازلهم، ويتحدث معهم مراعياً أحوالهم([3]).

قال ابن أبي جمرة× تعليقاً على الحديث: =فيه دليل استحباب سؤال القاصد عن نفسه؛ لِيُعْرَفَ؛ فيُنْزَل منزلته+([4]).

ب_ مخاطبة المحاور بما يحب أن ينادى به: فيجمل بالمحاوِر ألا يخاطبَ محاوره إلا باسمه الذي يحبه مقروناً بتبجيله، وإن كَنَّاه أو ناداه بلقب يَسُرُّه فحسن جميل.

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب النبي" لهرقل يدعوه إلى الإسلام؛ فقد جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_ في حديث أبي سفيان÷ الطويل، وفيه =ثم دعا _أي هرقل_ بكتاب رسول الله" الذي بعث به دحية إلى عظيم بُصرى؛ فدفعه إلى هرقل فقرأه؛ فإذا فيه: =بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فإن توليت فإن عليك إثم الأَرِيسيِّين([5])، و [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ].

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِر أَمْرُ ابنِ أبي كبشة([6])؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر؛ حتى أدخل الله علي الإسلام.

وكان ابن الناظور صاحب إيلياء، وهرقل سُقُفّاً على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناظور: وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة، قالوا ليس يختتن إلا اليهود؛ فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله " فلما استخبره هرقل، قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.

ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي" وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع، فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟

فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت؛ فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل+([7]).

فانظر كيف كان أثر ذلك الخطاب الجميل من رسول الله _عليه الصلاة والسلام_ إلى هرقل، ذلك الخطاب الذي فيه تنزيل هرقل منزلته، ومخاطبته خطاباً يليق به حيث كناه بعظيم الروم؛ فكاد هرقل أن يسلم لولا أنه وجد الممانعة، والمدافعة من أصحابه؛ فآثر الملك، والحياة الدنيا، فكان ذلك آخر شأنه.

ومن ذلك ما جاء في قصة محاورة النبي" لعتبة بن ربيعة؛ حيث قال له " في بداية الحوار =قل يا أبا الوليد أسمع+([8]).

وقوله في نهاية حديث عتبة: =أفرغت يا أبا الوليد+.

وقد مر الحديث عن ذلك في فقرة ماضية، وبيانُ أن تكنية الرجل أمْرٌ محبب إلى النفوس، ومقرِّب لها، وأنه إشعار بالهدوء، والرضا، والطمأنينة، والبعد عن الهياج، والغضب والكبر، وازدراء المحاور؛ إذ إن من آفات الحوار تجاهل المحاوِر اسم محاوره كأن يقول المرء بين الفينة والأخرى لمحاوره: يا فلان بغير اسمه تجاهلاً له، أو أن يناديه بلقب يكرهه، أو يغمطه حقه وقدره الذي يستحقه، ويحب أن يُنادى به من الألقاب التي يُعرف بها، أو أن يكثر المحاور من مناداة محاوِره بضمير المخاطب خصوصاً إذا كان في غير محله أو كان سبباً لاستثارة محاوره، كأن يقول: أنتَ، أو قلتَ، أو تكلمتَ، أو أخطأت.

ولا ريب أن تجنب ذلك راجع لذوق المحاور، وألمعيته، ومعرفته بطبائع النفوس.

ومن ذا يجاري النبي" في ذلك المضمار أو يقاربه؟

ج_ معرفة مستوى المحاوَر: فذلك من إنزال الناس منازلهم؛ فالناس تتفاوت عقولهم وأفهامهم، وثقافاتهم؛ فمن الحكمة وحسن السياسة في الحوار أن يخاطب كل أناس بما يعرفون، وأن يُتحامى مخاطبةُ أحدٍ بما لا يتحمله عقله؛ فالأدلة التي قد تصلح لأحد من الناس قد لا تصلح لغيره، وطريقة المحاورة التي يتقبلها فلان من الناس قد لا يتقبلها غيره.

والمحاور الفطن يعرف محاوِرَه، ويدرك الطريقة التي ينبغي له أن يحاوره بها.([9])

وبذلك يتجنب كلَّ مَا مِنْ شأنه أن يَغُضَّ من قدر صاحبه، أو ينزله منزلة غير منزلته؛ لذا كان لزاماً على المحاور أن يعرف درجةَ محاوره في العلم، والفهم حتى يخاطبه الخطاب اللائق به؛ فإن خطاب الكبير غير خطاب الصغير، وخطاب العالم غير خطاب الجاهل، وخطاب ذي المكانة غير خطاب من دونه وهكذا؛ فمراعاة تلك الأحوال مفيد أيما فائدة في الحوار.

وعلى هذا النحو كان تسير حوارات النبي".

والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل من أجلاها ما جاء في حديث بعث معاذ÷ إلى اليمن وقد مضى ذكره في فقرة سابقة.

والشاهد ههنا أن النبي" أرشده إلى أنه سيأتي قوماً أهل كتاب.

وذلك لأجل أن يستعد لهم الاستعداد الكافي، وينزلهم في خطابه منزلتهم اللائقة بهم؛ فلا يغض من شأنهم، ولا يهبط في حواره معهم.

قال ابن حجر × مبيناً تلك الوصية: =هي كالتوطئة للوصية؛ لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة؛ فلا تكون العناية بمخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان+([10]).

د_ التنويع في الإجابة رغم اتحاد السؤال: فمما يتجلى به مراعاته _عليه الصلاة والسلام_ لإنزال الناس منازلهم حال الحوار أنه كان يجيب عن سؤال واحد بأجوبة مختلفة بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص([11]).

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة ÷ أنه سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: =إيمان بالله ورسوله+.

قيل: ثم ماذا؟ قال: =الجهاد في سبيل الله+.

قيل: ثم ماذا؟ قال: =حج مبرور+([12]).

وسأله عبدالله بن مسعود ÷ السؤال نفسه بقوله: =أي العمل أفضل؟+ وفي رواية أخرى سأله بقوله: =أي الأعمال أحب إلى الله؟+.

فقال: =الصلاة لوقتها+.

قال: ثم أي؟ قال: =بر الوالدين+.

قال: ثم أي؟ قال: =الجهاد في سبيل الله+([13]).

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، والمقصود ههنا التمثيل لا الحصر.

هـ: تخصيص بعض الصحابة ببعض الأخبار دون الآخرين: فذلك داخل ضمن إنزال الناس منازلهم، كما في قوله " لمعاذ ÷: =من لقي الله لا يشرك به دخل الجنة+.

قال: ألا أبشر الناس؟ قال: =لا؛ إني أخاف أن يتكلوا+([14]).

فأخبر معاذاً بأمر، ومنعه من نقله إلى غيره؛ كراهية ألا يفهم المنقولُ إليه _ كما يقول الإمام البخاري _ في ترجمته للحديث([15]).

وقال العيني× في شرح الحديث: =فيه أنه يجب أن يخص بالعلم قوم فيهم الضبط، وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله من الطلبة، ومن يُخاف عليه الترخصُ، والاتكال؛ لتقصير فهمه+([16]).

2_ التسليم للمحاور: وذلك إذا أبدى رأياً، فأصاب المرمى؛ حيث يؤخذ برأيه، ويصار إليه؛ فذلك من أعظم ما يرفع من شأن المحاورين، ويشعرهم بقيمتهم.

والشواهد على ذلك من السيرة النبوية كثيرة، ومن أحسن ما يمثل هذا الأدب الجميل ما جاء في خبر مشورة الحباب بن المنذر÷ في غزوة بدر، ومما جاء في ذلك الخبر أن الله _عز وجل_ بعث السماء، فأصاب رسولَ الله" والمسلمين ماءٌ لبَّدَ لهم الأرض، وأصاب قريشاً ماءٌ لم يقدروا أن يرتحلوا معه، ثم رحل رسول الله" بالمسلمين، وقال لهم: =سيروا على بركة الله؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين؛ فكأني أنظر إلى مصارع القوم+.

ثم مضى يبادر قريشاً إلى الماء إذا جاء أدنى من ماء بدر نزل به.

فجاء الحباب بن المنذر بن الجموح أحد بني سلمة إلى رسول الله" فقال: أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟

أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

قال: =بل هو الرأي والحرب والمكيدة+.

قال: يا رسول الله؛ فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض حتى نأتي أقرب قليب القوم، ثم نُغَوِّر ما سواه من القُلُب، ثم نبني حوضاً؛ فنملأه، ثم نقاتل، فنشرب، ولا يشربون.

فقال رسول الله": =قد أشرت بالرأي+.

ثم أمر بإنفاذه؛ فلم يجئ نصفُ الليل حتى تحولوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء.([17])

ففي هذه القصة أدب نبوي عظيم من آداب الحوار؛ حيث استمع النبي" إلى مبادرة الحباب، وفيه أدب الحباب مع الوحي؛ حيث سأل هل هذا من قبيل الوحي والنص الذي لا اجتهاد معه؟

أو هو من قبيل الرأي القابل للأخذ، والرد، والمداولة؟

ولما تيقن الحباب أنه من قبيل الرأي أبدى رأيه بكل صراحة وأدب.

ولما رأى النبي" وجاهة رأي الحباب قَبِلَه، وعَدَلَ عما كان مقبلاً عليه.

وفي هذا رفعة لشأن الحباب، وإشادة برجاحة رأيه، ونفاذ بصيرته.

وقد وقع ذلك موقعه من الحباب؛ فصار ذلك من مفاخِرِه التي يتحدث بها؛ فقد روى الحاكم في المستدرك أن الحباب بن المنذر قال: =أشرت على رسول الله" يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني؛ خرجت مع رسول الله" في غزاة بدر، فعسكر خلف الماء، فقلت: يا رسول الله! أبوحي أو برأي؟

قال: =برأي يا حباب+.

قلت: فإن الرأي أن تجعل الماء خلفك؛ فإن لجأت لجأت إليه؛ فقبل ذلك مني+([18]).

ومما يحسن التنبيه عليه أن الرجوع عن الرأي إذا كان الحقُ في خلافه، أو العدول عنه إلى رأي خير منه _ لا ينافي الثبات على المبدأ؛ إذ إن الذي ينافي ذلك: التنازلُ عن المبدأ الثابت، وذلك من آفات الحوار، ومما يتنافى والحزمَ.

ولكن ليس معنى ذلك أن يصر المرء على لجاجه وعناده بعد أن يتبين له الحق، بل الحكمة والعدل أن يرجع عن رأيه وقوله إذا لاح له وجه الصواب.

وإنما المقصود أن يثبت على مبدئه، ولا يرجع عما عقد عليه قلبه إلا إذا تبين له خلاف ذلك بالبرهان الساطع، والدليل القاطع.

قال ابن حزم×: =الثبات الذي هو صحة العقد، والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق.

والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل، أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه، وقد لاح له فساده، أو لم يَلُحْ له صوابه ولا فساده، وهذا مذموم، وضده الإنصاف.

وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق، أو على ما اعتقده المرء حقاً ما لم يَلُحْ له باطله، وهذا محمود، وضده الاضطراب.

وإنما يلام بعض هذين لأنه ضَيَّع تدبر ما ثبت عليه، وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل+.([19])

وقال العقاد: =العناد، والثبات على الرأي نقيضان؛ العناد إصرار بغير سبب، أو لسبب ظهر بطلانه.

والثبات إصرار على رأي يؤمن به صاحبه، ولم يظهر له ما يدعوه إلى التحول عنه+.([20])

3_ النظر في شبهات المحاورين، والإجابة عنها: ففي ذلك إرضاء لهم، وتطييب لنفوسهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في الصحيحين عن سهل بن حنيف÷ أنه قام يوم صفين، فقال: =أيها الناس اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله" يوم الحديبية ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله " وبين المشركين، فجاء عمر فأتى رسول الله " فقال: يا رسول الله ألسنا على حق، وهم على باطل؟ قال: =بلى+ قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: =بلى+ قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولمّا يحكمِ الله بيننا وبينهم؟ فقال: =يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً+.

قال: فانطلق عمر، ولم يصبر متغيظاً، حتى أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ فقال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟

فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبداً، قال: فنزل القرآن على محمد" بالفتح، فأرسل إلى عمر، فأقرأه إياه، قال: يا رسول الله أَوَ فَتْحٌ هو؟ قال: =نعم+ فطابت نفسه، ورجع.([21])

4_ استنباط آراء المحاورين، واستشارتهم: فقد كان _عليه الصلاة والسلام_ إذا مر به موقف يستدعي الاستشارة حاور أصحابه، واستخرج ما لديهم من آراء؛ استجابة لأمر ربه _جل وعلا_ بقوله: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران:159).

فقد أذن الله له بالاستشارة، وهو _عليه الصلاة والسلام_ غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده؛ إذ كان العرب من أشد الناس كراهةً للاستبداد، ونفوراً من الرئيس الذي لا يجعل لهم في تصريف الأمور العامة نصيباً من الرأي.

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في قصة أسارى بدر، فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: =فلما أسروا الأسارى قال رسول الله" لأبي بكر وعمر: =ما ترون في هؤلاء الأسارى؟+.

فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنوا العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار؛ فعسى الله أن يهديهم للإسلام.

فقال رسول الله: =ما ترى يا ابن الخطاب؟+.

قال عمر: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا؛ فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل، فيضرب عنقه، وتمكني من فلان _نسيباً لعمر_ فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده.

فهويَ رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت.

فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.

فقال رسول الله: =أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة+ _شجرة قريبة من نبي الله_ وأنزل الله عز وجل_: [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)] (الأنفال).([22])

ففي هذه الحادثة وغيرها يقرر النبي" في حواراته مبدأ الشورى؛ لما فيها من تقريب القلوب، وتخليص الحق من احتمالات الآراء، واستطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها.

كما أن في استشاراته أصحابه زرعاً للثقة في نفوسهم، وأنه يراهم مَطْلَعَ الآراء السديدة، ومواطن الإخلاص.

وأي منزلة أرفع من منزلة قوم يَعرِضُ عليهم الأمرَ يستطلع آراءهم فيه، وهو الغني بما يأتيه من وحي السماء _ كما مر _ وبما رزقه الله من سمو الفكر وصفاء البصيرة؟

ولهذا صار أصحابه، وقادة الأمة الكبار من بعده يأخذون بسنة المشاورة؛ فكان أبو بكر الصديق÷ من العلم بالشريعة والخبرة بوجوه السياسة في منزلة عَلِيَّة.

ومع هذا كان لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة.([23])

وهكذا كان عمر ÷ في الشورى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم، حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه.

وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله:[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38).

ولهذا كان رأي عمر، وحكمه، وسياسته من أسدِّ الأمور، فما رؤي بعده مثله قط، ولا ظهر الإسلام وانتشر، وعزَّ كظهوره، وانتشاره، وعِزِّه في زمنه.

وهو الذي كسر كسرى، وقصر قيصر، والروم والفرس، وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة، وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص، ولم يكن لأحدٍ _ بعد أبي بكر _ مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه+([24]).

وقد عقد الإمام البخاري× في صحيحه باباً عنوانه: (باب قوله _تعالى_: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] و [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]).

وقد قرر فيه مبدأ الشورى في حوارات النبي" والأئمة من بعده.

قال×: =وشاور النبي" أصحابه يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا له الخروج فلما لبس لأْمته، وعزم قالوا: أقم، فلم يمل إليهم بعد العزم، وقال: =لا ينبغي لنبي يلبس لأْمَتَهُ فيضعها حتى يحكم الله+.

وشاور علياً وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين، ولم يلتفت إلى تنازعهم، ولكن حكم بما أمره الله.

وكانت الأئمة بعد النبي" يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره؛ اقتداءً بالنبي".

ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله": =أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله+؟

فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله"، ثم تابعه بعدُ عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة؛ إذ كان عنده حكم رسول الله " في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه+.([25])

وهكذا يتجلى لنا من خلال السيرة النبوية ذلك الأدب العظيم في حوارات النبي" ألا وهو رفعه " من شأن محاوريه.

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] _ مقدمة صحيح مسلم ص20.

[2]_ البخاري (53).

[3]_ انظر: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المخاطبين في ضوء الكتاب والسنة د. فضل إلهي ص39.

[4]_ فتح الباري لابن حجر 1/131.

[5] _ الأريسيين: جمع أريسي، وهو الفلاح، والمراد بهم أهل مملكته من الضعفاء، والأتباع. انظر فتح الباري لابن حجر 1/51_52.

[6] _ يعني به النبي" لأن أبا كبشة أحد أجداده لأمه، وكان من عادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض. انظر الفتح 1/53.

[7] _ البخاري (7).

[8] _ مضى تخريجه ص95.

[9] _ انظر في أصول الحوار ص35.

[10]_ فتح الباري 3/358.

[11]_ انظر: من صفات الداعية مراعاة أحوال المخاطبين ص58.

[12]_ البخاري (26).

[13]_ رواه مسلم (85).

[14]_4_ البخاري (129).

 

[16]_ عمدة القاري 2/208.

[17] _ رواه ابن هشام 2/366 عن ابن إسحاق قال: =فحدثت عن الرجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب...+.

وقال الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي ص240: =وهذا سند ضعيف؛ لجهالة الواسطة بين ابن إسحاق والرجال من بني سلمة، وقد وصله الحاكم 3/26_27+.

[18] _ المستدرك 3/482، وانظر جوامع السيرة لابن حزم ص85.

[19] _ الأخلاق والسير ص57.

[20] _ أقوال مأثورة د. محمد لطفي الصباغ ص200 عن آخر كلمات العقاد ص39.

[21] _ البخاري (3182 و 4844)، ومسلم (1758).

[22] _ مسلم (1763).

[23] _ انظر الحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص21، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين ص118_123، ومحمد " المثل الكامل لمحمد أحمد جاد المولى ص18_20.

[24]_ منهاج السنة النبوية لابن تيمية 8/58.

[25] _ صحيح البخاري كتاب الاعتصام 96 باب قوله تعالى: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ص1404.