إن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا رحمة لأممهم وأقوامهم، لا نفرق بين أحد من رسله، ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم لما كان مبعوثاً إلى الناس أجمعين, عمت رسالته الأمم كلها ووسعت رحمته الشعوب جميعها، ولم يدّع أحد من الأنبياء أنه أرسل إلى الناس جميعا. وبالعكس من ذلك يخبرنا القرآن والحديث والتاريخ أن كل أحد منهم كان مبعوثاً إلى قومه خاصة.
ا"[1]
"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء
والتاريخ يصدق ذلك ولا يكذبه . فرسالته عامة ونفعها عام شامل للإنسانية جمعاء، ليست حكرا على قبيلة دون قبيلة، أو شعب دون شعب, أو قوم دون قوم. فهو مبعوث إلى الناس أجمعين، فلذلك رحمته للبشرفوق جميع الرحمات.كادت نفسه تذهب حسرات عليهم، وليس هناك أدل على ذلك من قوله تعالى. "ولعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا.[5]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال "مثلي كمثل رجل استوقد نارا،فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها,وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها.قال:فذلكم مثلي ومثلكم .أنا آخذ بحجزكم عن النار:هلم عن النار،هلم عن النار.فتغلبوني تقحمون فيها.[8]
إن أمامنا بحرا مائجا من الحياة لم يلتقم الأفراد والآحاد فحسب,بل إنه ابتلع الأمم والبلاد , وهضم الحضارات والمدنيات , ترتفع أمواجه العاتية الهائلة , كأفواه التماسيح الفاغرة , وتنقض على الجماعات البشرية كالأسد الضاري , والمشكلة أنه كيف نعبر هذا البحر الهادر الزاخر الذي لا يعرف الرحمة , وكيف ننزل بسفينة الإنسانية على بر الأمان , ولا يكون صاحب الفضل الأكبر في هذا المجال , ولا يعتبر أكبر منقذ للإنسانية وصاحب المنة عليها , والإحسان إليها , إلا من يجدف هذه السفينة , التي تلعب بها العواصف الهوجاءوالأمواج
إن النوع البشري شاكر لهؤلاء الذين منحوه هدية العلم , ويشكر هؤلاء الذين جمعوا له هذه الأكداس من المعلومات , ويشكر الذين هيأوا له كل هذه التسهيلات , وزودوه بوسائل الراحةوالرخاء , وذللوا صعاب الحياة , واقتحموا عقباتها وشعابها , انه لا يبخس حق أحد من هؤلاء , ولا ينكر فضلهم عليه , ولكن قضيته الكبرى , ومشكلته الأولى هي أنه كيف ينقذ نفسه من أعدائه الذين وقفوا له بالمرصاد , وأحاطوا به من كل جانب , وكيف يصل بسفينته إلى بر السلامة والأمان .
فما هي أمواج هذا البحر , وما هي تماسيحه الضارية الشرسة؟.
إنها الجهل عن خالق هذا الكون ورب العالمين , وعن صفاته العليا , وأسمائه الحسنى والوقوع في حبائل الشرك والوثنية , وعبادة الأصنام , والاسترسال مع الخرافات والأوهام , إنها بلادة حس الإنسانية , وذهولها عن نفسها , وغفلتها عن خالقها وبارئها .
إنهاعبادة المادة والمعدة، وتعدي الحدود , وانتهاك الحرمات , وسورة النفس الأمارة بالسوء , والتهرب من أداء الواجبات والحقوق, والإصرار على المنافع والحظوظ.
إن أكبر خطر على الإنسانية أن يحدث في بنائها خلل, وتحيد لبنتها الأساسية عن مكانها الصحيح , فينسى الإنسان قيمته ومداركه, وغاية حياته, ويظن نفسه ذئبا مفترسا, أو أفعى أو ثعبانا, فحين يذهل الإنسان عن هذه الحقائق الكبرى يتحول بحر هذه الحياة إلى نار متأججة, ولهب مرتفع , هنالك يزدرد الإنسان أخاه, ويفترسه, ولا يحتاج إلى الثعابين, والعقارب, والذئاب, والفهود... فقد ينقلب الإنسان أكبر ذئب في هذه الغابة الإنسانية ... تخجل أمامه ذئاب , ويتحول شيطانا ماردا , تستحيي منه الشياطين , هنالك يحترق الإنسان, ويشوي في ناره التي أشعلها بنفسه, ولا يحتاج إلى أن يستوردها من الخارج .
في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهب نفحة من نفحات الرحمة الإلهية, وتنعش رفات الإنسانية الخامدة الهامدة , تزودها بملاحين يجدفون سفينتها بنجاح ومهارة[9].
وقد جمعت بفضل الله عونه في رحمته (صلى الله عليه وسلم) العامة بالبشرية شيئا كثيرا، واستخرجت أشياء، واستنبطت فوائد من كتب الحديث، لو رتبتها وشرحتها لكان مجلدا ضخما يضيق لها هذا المقام . وألخص هنا هذا الجزء من البحث في نقاط:
1-كان الناس موزعين مفرقين بين قبائل وعشائر وأمم وطبقات وقوميات ضيقة وعنصريات وجنسيات. لايجمعهم شمل ولا تربطهم رابطة ولا تضمهم آصرة. وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتا هائلا كالتفاوت بين الإنسان والحيوان، وبين العابد والمعبود. لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقا. فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإعلان الثائر، الذي سحر النفوس، وبهر القلوب، وأدهش العقول، وقلب الأوضاع، فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي علي عجمي ولالعجمي علي عربي ولا أسود علي أحمر ولا أحمر علي أسود إلابالتقوى.[10]
لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية والجغرافية. لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد.. وكان هذا غريباً على ضمير البشرية وتفكيرها وواقعها يومذاك. والأشراف يعدون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد.. ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف وثلاثة عشر قرناً تحاول أن تقفو خطى الإسلام، فتتعثر في الطريق، لأنها لا تهتدي بنور الإسلام الكامل. ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج – ولو في الدعاوي والأقوال – وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ نيف وثلاث مئة وألف عام.
ولقد جاء الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون. في الوقت الذي كانت البشرية تفرق الناس طبقات، وتجعل لكل طبقة قانوناً. بل تجعل إرادة السيد هي القانون في عهدي الرق والإقطاع.. فكان غريباً على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء.. ولكن ها هي ذي شيئاً فشيئاً تحاول أن تصل – ولو نظرياً – إلى شيء مما طبقه الإسلام عملياً منذ نيف وثلاث مائة وألف عام[14].
وقد اعترف بهذه الأخوة والمساواةالمفكر
2-وهو رحمة للناس أجمعين بسهولة شريعته ويسر دينه.وقد تقدم ما يتعلق به في الباب الرابع.
3-وهو رحمة للبشر كلهم حيث أنه نهى عن جميع العقود والمعاملات التي تسيئ إليهم وتجني عليهم,ونهى عن جميع أنواع تعاطي الربا بتأكيد وتشديد.
فأعلن بقول الله تعالى }ياآيها الذين امنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله{[17].
4-وهو رحمة للإنسانية جمعاء إذ أنه نهى عن الخمر والميسر وجميع المسكرات. فقال "كل شراب أسكر فهو حرام"[20]حتى قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"[21].
وقد أصدر هذا الحكم في زمن كان العالم كله قد أشرب في قلبه الخمر.فأتباع بولس يرون شرب الماء بدونها حطّاً من شأنهم، وأهل إيران يعتبرون كأسها كأسا ملكية ،وأهل الهند لايجدون بداً من استعمالها للتقرب إلى الآلهة،وكانت معظم الطقوس الدينية والدنيوية لاتكمل بدونها،وكان كلام الشعراء العرب لايخلو عن وصفها، وبالجملة فما زال العالم طيلة ثلاثة عشر قرنا يكافح هذا الأمر الذي حسمه الإسلام بالتحريم حتى كشفت الحرب العالمية الأولى (من سنة 1914م إلى سنة1918م)عن حقيقتة.
فجورج الخامس ملك بريطانيا هو أول من كان قدوة لقومه في الكف عن شرب الخمر واتبعته روسيا وإنكلترا وفرنسا في ذلك, إلى حدما وكذلك أظهرت أمريكا إرادتها عن عدم صنع الخمر ، والحق أن الكف عن شربها رحمة.[22]
5-ومن أكبر مننه على النوع البشري وأعظم رحماته به هوأنه أعاد إلى الإنسانية كرامتها وحقن دماءها. لقد بلغ الإنسان قبل البعثة المحمدية إلى حضيض الذل و الهوان، فلم يكن على وجه الأرض شيء أصغر منه و أحقر، وكانت بعض الحيوانات "المقدسة" و بعض الأشجار "المقدسة" التي علقت بها أساطير و معتقدات خاصة، أكرم و أعز عند عبادها، و أجدر بالصيانة، والمحافظة عليها من الإنسان، ولو كان ذلك على حساب قتل الأبرياء، و سفك الدماء، وكانت تقدم لها القرابين من دم الإنسان و لحمه من غير وخز ضمير و تأنيب قلب، و قد رأينا بعض نماذجها و صورها البشعة في بلاد متقدمة راقيةمادياً إلى حد كبير،كالهند في القرن العشرين، فأعاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية كرامتها و شرفها، ورد إليها اعتبارها وقيمتها، و أعلن أن الإنسان أعز موجود في هذا الكون و أغلى جوهر في هذا العالم، وليس هنا شيء أشرف و أكرم، و أجدر بالحب، و أحق بالحفاظ عليه من هذا الإنسان.[24]
فأعلن أنه}من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا{[25].
------------------------------
[1] سبا ، 28
[2] الأعراف 158
[3] آل عمران 49
[4] البخاري رقم 335 و مسلم (521)
[5] الكهف 6
[6] وقدتقدم أن ادلج بمعنى : سار من أول الليل .
[7] البخاري رقم. 6482 مسلم.رقم(2283)
[8] البخاري رقم 6483 ومسلم (2284)
[9] السيرة النبوية للشيخ أبي الحسن الندوي ص 458-459
[10] مسند أحمد 5/411, وهذا حديث صحيح .
[11] أبوداؤد رقم 116 والترمذي رقم 3955-3956, وقال حسن صحيح .
[12] أبوداؤد 5121 .
[13] أحمد 4/145و158،والبيهقي في شعب الإيمان4/292رقم 5146,وحسنه
الشيخ شعيب الأرناؤوط.
[14] في ظلال القرآن ج4/2401-2402
[15] الرسول في الدرسات الاستشراقية المنصفة ,ص453
[16] الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة ص 453
[17] البقرة 278-279
[18] انظر صحيح مسلم رقم (1218) وسنن أبي داؤد رقم 1905 و سيرة ابن هشام 4/248
[19] في ظلال القرآن 1/318
[20] البخاري 5586 و مسلم (2001)
[21] ابو داؤد 3681والترمذي 1865 وابن ماجه 3393, وهذا حديث حسن.
[22] انظر رحمة للعالمين للقاضي سليمان المنصور فوري2/395
[23] انظرنبذة من السيرة النبوية ص 268
[24] انظر السيرة النبوية للشيخ أبي الحسن الندوي ص: 472
[25] المائدة 32
[26] البخاري 6785