Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

رمضان فرصة لتهذيب النفس , فأبواب الخير في هذا الشهر  أكثر منها في غيره والشياطين فيه أضعف منها في غيره  , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه و سلم) : إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ . متفق عليه وعند النسائي : وتغل فيه مردة الشياطين

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
مظاهر الرحمة في شخصيته

توافد المتابعون لهذه المحاضرات على القاعة، وكانت الدكتورة سارة قد سبقت أكثرهم إليها، ويشعر المراقب لوقائع هذه المحاضرات، أن المحاضرة الرابعة قد تختلف عن سابقتها، فبعض الحاضرين متحفزون، دخلوا القاعة وهم ينظرون في كراسات يحملونها، ولا يخلو الحال من مناقشات جانبية، أكثرها غير مسموع.

بدأت الدكتورة سارة المحاضرة بالقول، الحديث في الدقائق العشرة الأولى لكم أيها الأعزاء، حول التساؤل الذي أثير في نهاية المحاضرة الماضية، كما تعلمون.

وقف أحدهم من الصف الأول، وكان يبدو عليه أنه في الستينيات من عمره، وقال: أعتقد أن الإجابة عن هذا التساؤل سابقة لأوانها، إذ ليس من السهولة بيان هذا الأمر، قبل الاطلاع على بقية سيرة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) ، واستعراض أحداثها، وهذه وجهة نظري .

أرجو أن لا تمنع الآخرين من إبداء آرائهم، ثم شكر الدكتورة وجلس، التي بدورها لم تعلق بشيء، وإنما اكتفت بالابتسام ورد التحية وشكره على مشاركته.

عند ذلك وقفت امرأة ، يبدو عليها التردد، ونظرت حولها، لترى هل من أحد لديه الرغبة في الحديث قبلها، فلما لم تر أحداً، قالت: وجهة نظر المتحدث الكريم جميلة وتستحق التقدير، لكن يبدو لي أنه مرَّ بنا بعض أحداث تخدم قضيتنا ولا يحسن إغفالها،

إن منهج العفو والرحمة الذي سلكه نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) لم يكن من تلقاء نفسه، بل أمره الله تعالى به، كما رأينا في التوجيهات القرآنية الماضية، والنبي قطعاً، يلتزم بهذه التوجيهات بحذافيرها، مما يعنى أن هذا الخلق، لم يكن وليد الظروف، والإمكانات، وباجتهاد من النبي والأحداث تشهد لهذا الملك بخاصة بعد تبدل أحوال النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما بعد.

أرجو أن تكون فكرتي قد وصلت، وأنا قطعاً لا أملك إمكانات الدكتورة وقدرتها على التعبير، بادرت الدكتورة بشكرها، والثناء على طرحها الموفق إلى أبعد حد.

قالت الدكتورة، بقى من الوقت ما يسمح لشخص ثالث بإبداء رأيه، فقال أحدهم من آخر القاعة، بصوت مرتفع، أنا هو، فالتفت أكثر الحضور إليه، فبادر بالقول، يبدو لي أن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) لو أراد أن يرد الإساءة بمثلها، لأمكنه هذا، فأنتم تذكرون أن أتباعه، طلبوا منه غير مرة، أن يأذن لهم باستعمال القوة، للدفاع عن أنفسهم، فلم يسمح لهم، وقال لهم بكل وضوح وصراحة، لم يؤذن لي بعد، فالمسألة إذن ليست مسألة ضعف، وعجز، وشكراً.

هنا تحدثت د. سارة، فقالت: أرجو المعذرة، فأنا لم أقصد أن أمنع أحداً من إبداء رأيه، عندما حددت الوقت بعشر دقائق، وها أنا أقول، من لديه رأي بما نحن بصدده، فليتفضل بطرحه .

فوقف شاب تعرفه الدكتورة جيداً لأنه من طلابها في الجامعة، فقال بلغة حماسية، ما الذي كان يمنع أتباع نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، الذين كانوا يعذبون بالنهار من الانتقام لأنفسهم من أعدائهم بالليل مثلاً، ونحن نعرف طبيعة المكان الذي وجد فيه هؤلاء الناس، فهو قطعاً من حيث إمكاناته ليس مثل إحدى المدن المعروفة لدينا هذه الأيام وشكراً.

أعجبت د. سارة بحماس الشاب المتكلم، وبسرعة حديثه، وشعرت أنه لفت انتباه الحاضرين، فشكرته وشجعته، ثم قالت: أعزائي الكرام: كم أنا مسرورة في هذه اللحظات، ولا أدري هل سروري نابع مما سمعت من آراء تدل بوضوح على استيعابكم لما أطرحه، أو أنه نابع من تفاعلكم مع هذه المحاضرات، الذي أشعر أنه ينمو ويزداد، لأننا جميعاً ننتظر تتابع الأحداث، لنرى هل ستشهد للقول بأن الرحمة خلق أصيل في نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) لا يتغير ولا يتبدل، أم تشهد للقول بأن الرحمة والتسامح، كانت آنيِّة بسبب الضعف ، وقلة الإمكانات.

أيها الحضور الكريم ..

سعى نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) منذ بداية أمره، إلى وضع معالم لما يمكن أن تسمى بمصطلحات العصر، نظرية أخلاقية في مجال الرحمة، وهذا ظاهر من خلال الأقوال والممارسات التي صدرت عنه، وأحسب أني قادرة على بيانها من خلال المظاهر التالية :

1. من خلال تذكير أتباعه على الدوام، بأن الله تعالى رحمن رحيم، وذلك عن طريق المداومة على قراءة القرآن، وحسبنا أن نعرف أن المسلم يردد (الرحمن الرحيم) في اليوم قرابة ثلاثين مرة، في صلوات الفرض والتطوع، عندما يقرأ الفاتحة، في كل ركعة من صلاته، والتذكير برحمة الله، يحمل المسلم على التخلق بها.

ومن مظاهر رحمته سبحانه بمخلوقاته جميعاً، أنه أنزل من السماء جزءاً من رحمته إلى الأرض، من أجل هذه المخلوقات، وهذا ما أوضحه النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: ( جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)(1).

إن في التنويه برحمة الفرس ولدها، إشارة لطيفة إلى تراحم الحيوانات، والناس أولى وأحوج لهذا التراحم، لأنهم أشد فتكاً ببعضهم حين تغيب الرحمة، وتحل القوة والكراهية.

2. حرص نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) على تذكير أتباعه بمنزلة الرحمة، وأهميتها، والتأكيد على أنها ليست خلقاً تكميلياً جمالياً، بل هي خلق لازم واجب، فكان مما قاله في هذا المقام: ( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)(2) ، وقال لهم أيضاً: ( الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء)(3).

مما يحسن التنويه إليه، في هذا المقام، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يسعى إلى نشر ثقافة الرحمة على أوسع نطاق، بين الناس، ولم يكتفِ من أصحابه بالرحمة الخاصة التي تكون لا محالة بين أبناء الأسرة الواحدة، وبين الأقارب، والأصدقاء الخُلَّص، فهذه رحمة محمودة، ولكن يحتمل أن يكون لها دوافع أخرى.

ها هو النبي(صلى الله عليه وسلم) في سبيل هذا المفهوم، يقول لأصحابه( لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا يا رسول الله كلنا رحيم، قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)(1)، وهذا توجيه حسن يسهم في نشر ثقافة الرحمة بين الناس، من حيث هي خلق مستحب، وقيمة إنسانية عظيمة.

وكان يفاضل بين أصحابه، بقدر تمثل الرحمة في نفوسهم، ويجعلها ميزة لهم، فهاهو يقول ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)(2)، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في موطن آخر (أرحم هذه الأمة بها أبو بكر)(3)، وهذا تنويه من النبي(صلى الله عليه وسلم) بمنزلة الرحمة، وبقيمتها حين كشف لأصحابه، أنها من مسوغات تفضيل أبي بكر(رضي الله عنه) عليهم جميعاً.

3. ممارسة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) لهذا الخلق، في شؤون حياته كلها، دونما تكلف، أو تصنع، فقد زار قبر أمه، وجلس عنده، فبكى بكاءً شديداً، والصحابة حوله(4) .

وزار يوماً أحد أصحابه، وكان مريضاً، وهو سعد بن عبادة (رضي الله عنه)، وكان معه عدد من أصحابه، فلما دخل عليه، ورآه بكى النبي (صلى الله عليه وسلم) لحاله(5). بل كان نبي الرحمة(صلى الله عليه وسلم) ذا حس مرهف، يتجنب بعض المواقف، لأن نفسه الرحيمة لا تتحملها.

فقد ذكر أسامة بن زيد (رضي الله عنه)، أحد الصحابة المقربين منه، قال: ( كنا عند النبي(صلى الله عليه وسلم)، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبياً لها، أو ابناً لها في الموت، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أرجع إليها فاخبرها إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب، فعاد الشخص وقال للنبي (صلى الله عليه وسلم): إنها قد أقسمت لتأتينها.

قال فقام النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقام معه سعد بن عبادة (رضي الله عنه)، ومعاذ بن جبل (رضي الله عنه)، وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة(1) ، ففاضت عيناه، فقال سعد، ما هذا يا رسول الله ؟ قال هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء(2).

إن سؤال هذا الصحابي الذي يحمل شيئاً من التعجب، ليدل على أن الثقافة السائدة آنذاك تستهجن أن يبكي العظيم، لأنه قد يصغر في عين قومه، فوجدها النبي (صلى الله عليه وسلم) فرصة مواتية لتصحيح المفاهيم.

لقد صعب على النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يحضر هذا الموقف لأنه لا يحتمل أمثاله، رحمةً منه بهذا الطفل، ورحمةً منه بأمه، ولكن لما حضر بكى لهذا الموقف المؤثر، وبعض أصحابه ينظرون إليه، فوجدها فرصة مناسبة ليبين لهم أن هذا الموقف يستدعي البكاء الدال على الرحمة، والله الرحيم يكافئ الرحيم من عباده فيرحمه.

وعندما توفى ولده إبراهيم بكى لفراقه (3)، إضافة إلى مواقف أخرى كثيرة بكى فيها، والصحابة ينظرون، ويشاركونه البكاء فيها، بكل عفوية، وصدق، إنها دعوات واضحة من النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ضرورة التفاعل الإيجابي، مع المواقف بما يناسبها، وإلى التحذير من الاتصاف باللامبالاة، والقسوة والجمود.

واسمحوا لي أن أذكر في هذا المقام شهادتين لاثنين من كبار زعماء العرب الذين كانوا من أشد خصوم نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، وقد شهدا هذه الشهادة قبل إسلامهما، وهما أبو سفيان بن حرب وعروة بن مسعود الثقفي.

فقد قال الأول: ( ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(1)، أما عروة الثقفي فقد قال : ما نصه وهو يخاطب قريشاً : والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً)(2).

لهذا الحب، آثاره وثماره، فلقد كان أصحابه شديدي الحرص، على متابعته، فيما يصدر عنه، من قول أو فعل، وكانت لديهم رغبة شديدة في التشبه به، في كل أحواله، وأحسب أن خلق الرحمة في طليعتها.

4. حذَّر أتباعه من قسوة القلب،وعرَّض بمن يعرض عن الرحمة، وشدد عليه بالقول، مهما كانت منزلته.

فهذا الأقرع بن حابس، أحد زعماء قبيلة بني تميم، وهو من الشخصيات المعروفة في عصره، دخل على نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) محمد يوماً في حاجة له، وكان بين يدي النبي (صلى الله عليه وسلم) طفل كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقبله ويحنو عليه، فتعجب الأقرع من هذا التصرف، وكأنه استنكره حين قال للنبي: أتقبلون أطفالكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً.

نظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إليه، ووبخه، وكان مما قاله له، من لا يَرحم لا يُرحم، وقال له: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة(3).

أحسب أن الأقرع كان يتوهم أن تقبيل الأطفال وملاعبتهم يتنافى مع الزعامة والعظمة، وهو ما جعله يستهجن فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وربما زاد استهجانه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل هذا أمامه، وكأن مجلس الكبراء لا يتسع لتقبيل طفل.

أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يعطي الأقرع درساً يفيد منه من حضر اللقاء ومن سوف يصلهم أخباره سريعاً، إن العظمة تكمن في البساطة، وتظهر في الرحمة.

هذا مشهد آخر، تظهر فيه الرحمة بأبهى صورها، فهاهم ثلاثة أطفال، أبناء عمه العباس وهم: عبد الله ، وعبيد الله،وكثير، كان يصفُّهم صفاً على مسافة منه، ثم يدعوهم للسباق، ويقول لهم: ( من سبق إليَّ فله كذا وكذا، فيسبقون إليه فيقعون على ظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) وصدره ، فيحتضنهم ويقبلهم )(1). ولَكُم أن تتصوروا أعزائي الحضور، حالة رجل يتدافع إليه ثلاثة أطفال، ويتزاحمون عليه، أيهم يكون الأقرب منه، والأولى بجائزته، إنه مشهد يفيض رحمة، وعفوية ،وتبسط .

لقد تذكرت في هذا الموقف، كيف أن كثيراً من الزعماء يتوددون إلى الناس في المناسبات، أو في مواسم الانتخابات بالاحتفاء بالأطفال كمرافقتهم أو مداعبتهم، أو تقبيلهم، لأنهم يعلمون أن هذه التصرفات تظهر للناس الوجه المشرق فيهم، وتقربهم إلى قلوب جماهيرهم.

بيد أن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) كان يتمثل هذه المعاني بأقواله وأفعاله قبل 1400 سنة بكل عفوية صادقة، وبنية خالصة.

سعى النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أن يتخلق الناس بخلق الرحمة من أجل أنها إحدى صفات الله الكريمة، لا من أجل أي دافع آخر، ومن الأساليب التي استعملها في هذا المقام، حثهم على التوسع في ممارسة الرحمة، مع المخلوقات الأخرى، لتصبح الرحمة أصيلة في قلوبهم، عفوية في تعاملاتهم.

فقد ذكر صاحبه الجليل عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في سفر، فانطلق الرسول لحاجته، فرأينا حمرّة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تُفرِّش، فجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها.

ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: ( من حرق هذه ؟ قلنا نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاَّ رب النار )(2)

وذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه قصتين، تتصلان بهذا المعنى، فقال: فيما يرويه عنه صاحبه أبو هريرة (رضي الله عنه) بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسك بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال ( في كل كبد رطبة أجر)(1).

وفي قصة أخرى مماثلة، يحذر من القسوة على الحيوان، فيقول النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: ( عذبت امرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، ولا سقتها، إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)(2).

لقد أكثر النبي (صلى الله عليه وسلم) من هذه التوجيهات والقصص والممارسات، لأنها كفيلة بأن تعطي الرحمة بعداً عميقاً في النفس، وتدفعها لأن تنشئ رقابة ذاتية في النفس لرعاية هذا الخلق، وهو ما يحتاجه كل فرد على هذه الأرض ، كأن هم النبي الأول، وشغله الشاغل هو نشر الرحمة، والحرص على ممارستها، لتصبح كما ذكرت سابقاً خلقاً جماعياً، ومَعلماً اجتماعياً، يحكم العلاقات، ويسهم في حل المشكلات، أو محاصرتها.

لقد حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على أن يرسخ في أذهان أتباعه، ومحبي الفضائل، حب الرحمة، والعمل بها في كل حين، وعلى أية حال، دونما ربط لها بدوافع دنيوية، أو آنية، كتلك التي تحدث عنها علماء الأخلاق.

توجد هذه التربية شعوراً داخلياً، لدى أتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن الرحمة محببة لذاتها، مرغوبة لآثارها الطيبة، عاجلة كانت أو آجلة، فينشأ عن هذا، أنه إذا خلا مسلم بكلب رحمه، وإذا ظفر بهرة لا يعذبها، بل يرفق بها، وإذا أمسك بطير صغير في فلاة من الأرض، أشفق عليه ورحمه.

وكانت تبدو من النبي (صلى الله عليه وسلم) رحمة ظاهرة بالضعفاء من الناس، كالخدم، فإنه كان يحث على التخفيف عنهم رحمةً بهم، وكان ينهى عن القسوة عليهم، فقد ذكر خادمه أنس، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يضرب في حياته خادماً قط.

وحث النبي (صلى الله عليه وسلم) الناس على رحمة هذا الصنف من الناس،مما قاله النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا المجال: ( هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)(1).

وثمة لمسة حانية أراها في النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يوجه الناس، إلى مسألة قد تبدو جزئية، ولكنها ذات دلالة كبيرة، فها هو يقول للناس، فيما يرويه أبو هريرة (رضي الله عنه) عنه ( إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاء به وقد ولي حره ودخانه فليقعد معه فليأكل، فإن كان الطعام قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)(2)، يعني لقمة أو لقمتين.

يا له أعزائي الحضور، من توجيه يغرس الرحمة غرساً هادئاً ولطيفاً في النفوس، حين يحث الناس على أن يجلسوا خدمهم معهم ليأكلوا من الطعام الذي صنعوه، فإن تعذر هذا، فلا أقل من أن يعطي صاحب البيت الخادم بعضاً من هذا الطعام، رحمةً به وجبراً لخاطره.

يستقر في القلوب الواعية، والنفوس الصافية،أن الرحمة خلق واجب، من خلال ما سمعوا من نصوص، ومن خلال ما شاهدوا من وقائع من النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن خلال أمرهم بمتابعة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتأسي به، ولم يكتف النبي (صلى الله عليه وسلم) من أتباعه بأن يبدو الإعجاب، أو التعجب من التزامه بالرحمة، ودعوته إليها، مع بقاء من شاء منهم على حاله، كما هو مسلك بعض من سبق من العظماء والمصلحين.

وإنما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يحرص على أن يرى أتباعه، يمارسون الرحمة قولاً وعملاً، ويحملهم على التخلق بها، حملاً بشتى الوسائل، وهو ما يجعلنا نقول، إن من مظاهر رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالناس أنه علمهم الرحمة، وأعانهم على العمل بها، وحثهم على ممارستها في شؤون حياتهم.

من ذلك قوله لأصحابه: ( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، وإن أربع فخامس أو سادس، فيأخذ الصحابة بعضهم، ومن بقي منهم يصطحبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى داره ، فيتعشون معه)(1).

إنه درس رائع في التكافل والتراحم، كان النبي (صلى الله عليه وسلم) شريكاً فيه، يقدمه للبشرية جمعاء، ترى لو أخذت البشرية المعاصرة بهذه النصيحة هل كنا سنقرأ في تقرير التنمية البشرية لعام 2005م أن أكثر من 850 مليون إنسان ثلثهم من الأطفال ما قبل سن الدراسة، واقعون في فخ الدائرة المفزعة لسوء التغذية ومضاعفاتها(2) ؟أترك الجواب للبشرية نفسها.

إن هذا بحق هو أظهر ما ميز دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) عن دعوات غيره ممن سبقه، فالمسيح دعا إلى الرحمة والتسامح، ولكنه لم يتمكن من إيجاد مجتمع متراحم، وليس أدل على ذلك من أنه تعرض لأذى مجتمعه كثيراً، ولم يرَ منهم معاملة حسنة، وقد وقف على هذه الحقيقة الأستاذ اينين رينيه حين قال: ( لقد دعا عيسى u، إلى المساواة والأخوة، أما النبي محمد فوفق إلى تحقيق المساواة بين المؤمنين أثناء حياته(3)).

هذه إشارة واضحة، إلى الفرق بين من يدعو إلى الأخلاق، ولا يتمكن من حمل الناس عليها، وبين من يدعو لها، ويكون من منهجه أن يجعلها واقعاً معاشاً.

وأود أيضاً أن أشير إلى مسألة ذات أهمية تتصل بهذين النبيين الكريمين، فالمسيح لم يتمكن من تطبيق ما دعا إليه، لأنه لم يكن يملك سلطة، فالسلطة في عصره كانت بيد اليهود، والرومان، وموقفهم منه لا يخفى، فكان له عذره، فجاء من بعده أخوه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ليحقق ما تمنى المسيح تحقيقه.

أما نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) فقد سعى إلى أن يملك ما لم يتسن للمسيح الحصول عليه، وهو القوة ليحمي بها ما يدعو إليه، وهو ما يجعلنا نقول، إن القوة التي حازها نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) والحروب التي خاضها، كانت من أجل حماية الفضائل، وأعد بأن أعرض لهذه المسألة في إحدى المحاضرات.

إن القوة التي أشرت إليها كان استعمالها رحمة بالرحمة التي نتحدث عنها، وأرجو أن لا أتهم بفلسفة الأمور، ولكني أردت بهذا أن أوضح موقفين، قد يبدوان مختلفين، ولكنهما سليمان لاعتبارات تتصل بكل منهما، واستحضار هذا الأمر مفيد ونحن نتحدث عن المسيح وعن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) .

أعزائي الحضور ..

سبق أن ذكرنا فيما مضى، أن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) وضع أسساً ومعالم لخلق الرحمة، جعلته جزءاً أصيلاً من كل عمل مشروع، ومصاحباً ملازماً لكل تصرف أو سلوك.

سعى نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) إلى نشر المنهجية الأخلاقية، لتسهم في بناء الإنسان السوي، وتكوين المجتمع المثالي، وتعني هذه المنهجية فن السيطرة على الأهواء، والعمل على تحقيق القيم الإيجابية، وهو ما يعني عملياً ، الكف عن الشر من حيث هو شر منهي عنه، وفعل الخير من حيث هو خير مأمور به(1) ، وما قصة الرجل الذي دخل الجنة، بسبب كلب، وقصة المرأة التي دخلت النار بسبب هرة عنَّا ببعيدتين.

يؤدي هذا فيما يبدو لي إلى تحقيق التوازن والتكامل، اللذين كان ينشدهما نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) وهو يوجه أتباعه إلى القيام بالتكاليف، وتحقيق الأهداف، التي يسعون إلى تحقيقها أسوة به، في ضوء المنهجية الأخلاقية السابقة الذكر، والتي يأتي في مقدمتها خلق الرحمة.

وجَّه نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) أتباعه إلى أن مشروعية الغاية، لا تعفي من مشروعية وسائلها، فلكي يكون العمل المطروح مقبولاً، لا يكفى أن يستهدف الخير، بل يجب كذلك أن يستلهم الشرع بمعنى أن يكون مشروعاً مقبولاً، وأن يتطابق مع قواعده(1)، والرحمة ـ التي كانت شبه مفقودة في تلك بيئة ـ من أبرزها.

كونوا على ثقة، أعزائي الحضور، أني استعرضت كثيراً من أفعال وإنجازات شخصيات عدة ، من قادة حروب ، وزعماء، ورواد ، لحركات تغيير ، على مدى التاريخ، فلم أرَ أحداً منهم، استحضر هذا التوازن، على مدى رحلته، وطوال سيرته، سواءً مع أتباعه، أو مع أعدائه على حد سواء، لقد انفرد النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا المنهج وسبق إلى هذا التميز.

في هذه الأثناء، لحظت الدكتورة سارة أن بعض الحاضرين ينظر بعضهم إلى بعض، وأن بعضهم توقف عن تدوين الملحوظات. فتوقفت عن الحديث، ونظرت إليهم مبتسمة وإذا بأحدهم يقول، كاد الاتصال ينقطع بيننا حيث إن بعضنا فيما يبدو لي لم يستوعب بعض ما قيل في الدقائق الأخيرة.

قالت لهم شكراً على هذه المصارحة، التي تدل على المتابعة، والاستيعاب، وما ذكرتموه متوقع، لأن ما سبق ذكره يشبه القواعد، بخاصة أنه لم يصاحبها تمثيل، وهو ما سأذكره الآن، ثم ضحكت، وقالت هذه هي عادة الطلاب، لا ينتظرون حتى ينتهي المحاضر من كلامه، لأنه في الغالب سيأتي على ما يدور في أذهانهم، من إشكالات، أو تساؤلات، لكنه الطبع والطبع يغلب، وإن كان بعضكم ليسوا طلاباً حقيقة، فهم أساتذة، والحق أن هذا مبعث اعتزاز لي، أن تستمع إليَّ النخبة، وفي الوقت نفسه مبعث حرج لأني أشعر أني في موضع اختبار، ومحل نقد، ولكني أقول لكم جميعاً الرحمة الرحمة فإنها كفيلة بأن تبعث الطمأنينة في نفسي .

أعزائي ..

سوف أوضح ما سبق إيجازه، من خلال ذكر بعض الأحداث، والوقائع، التي ذكرت في عشرات الكتب، وأود أن أذكر لكم، بهذه المناسبة، أني من اشد الناس نفوراً من الأساطير، وهي للأسف موجودة في سير عدد من العظماء المتقدمين، بخاصة أولئك الذين لا يعرف عن سيرتهم الشيء الكثير، وهو ما جعل أتباعهم ينسجون حولهم الحكايات، ويضعون الأساطير والقصص الخيالية في سيرتهم، ظناً منهم أن العظمة تعني الخروج على مألوف الناس، وأن المرء لا يكون قديساً ، حتى تبدو منه أمور خارقة، غير ممكنة من غيره من البشر.

لقد فات هؤلاء أنَّ البشرية لا تتأثر بالأسطورة أياً كانت، لأن الأسطورة لا تسهم في تربيتها، وإن استوقفتها في بداية الأمر، واستسلمت لها حيناً من الدهر، وهي تعلم أنها أسطورة ، وربما أعجبت بها، أو بتعبير أصح، تعجبت منها.

أعتذر أعزائي عن هذا الاستطراد، الذي لا أعدكم أني سوف أتركه، ولكني أعدكم أن اعتذر إليكم، كلما شعرت أني استطردت في حديثي، إذا تذكرت أو ذُكِّرت، وأعود إلى ما كنا بصدد توضيحه.

سمعتم جميعاً بقادة وزعماء عظام، أمثال الاسكندر المقدوني، وهولاكو، ونابليون، وهتلر، حدثنا التاريخ عن هؤلاء أنهم كانوا محل أعجاب أتباعهم، واستطاع كل واحد منهم، أن يحشد حوله مئات الألوف من البشر، وحدثنا التاريخ أيضاً أنهم استغلوا هذه الجموع الغفيرة بسبب إعجابها بهم، ومتابعتها لهم، واستخدموها في تحقيق أغراضهم بغض النظر عن الأخطار التي تحدق بهم، أو الأضرار التي ستلحق بهم.

ليس أحد منكم بحاجة إلى أن اذكر له ماذا صنع هتلر بجيشه، ولا ما صنعه هولاكو من قبل، أو ما صنعه نابليون الذي عُرف عنه استغلاله لجنوده، وقد سجل هذه الحقيقة من درسوا شخصيته، وتابعوا معاركه، منهم العقيد محمد أسد الله صفا الذي يقول ( كان نابليون يسهر على مصالح خدمة جنوده، لكنه كان يستغلهم دائماً بقسوة لا متناهية )(1).

لا يشك أحد منصف، أن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) حاز على حب جميع أتباعه، وعلى ثقتهم المطلقة، وهو ما تعذر توفره لكثير من القادة، فقد يكون القائد محبوباً، ولا يكون موضع ثقة، لاعتبارات أخرى، والعكس كذلك، فقد يثق الجنود بقائدهم وبقدراته، ولكن ليس بالضرورة أن يحوز على محبتهم، لأسباب لا تخفى.

إن الأحداث التي بين أيدينا، تؤكد أن محمداً نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) لم يكن من هذا الصنف على الإطلاق، فلم يسجل لنا التاريخ حادثة واحدة تدل على أنه استغل هذه المحبة واعتمد على هذه الثقة ليذهب بأتباعه حيث شاء، ويحقق من خلالهم ما يصبو إليه، دونما اعتبار للمنهجية الأخلاقية، وفي مقدمتها وعلى رأسها الرحمة، لأنها ذاك الخلق الذي يحتاج إليه الأتباع، من المتبوع، وربما لا يتطلعون إلى غيره في ظروف كثيرة.

كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يدعو إلى هذا الدين، بكل تلطف ورحمة، حتى لا يحمل نفوس أتباعه فوق ما تطيق، بل إنه كان في بعض الأحيان، ينصح من جاء ليتبعه، ويبقى معه، أن يعود إلى بلده، حتى لا يتعرض للأذى رحمةً به، وشفقة عليه.

فهذا عمرو بن عبسه السلمي، جاء إلى نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، في بداية الدعوة، فأسلم وعرض على النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يبقى معه يسانده، فقال له النبي(صلى الله عليه وسلم) ، رحمةً به، وتخفيفاً عنه ( إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي، وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)(1).

إنها الرحمة التي جعلت نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) يقدم مصلحة الرجل الخاصة على غيرها، واتمني على أصحاب الدعوات، وقادة الحركات في عالمنا المعاصر، أن يستوعبوا هذا الدرس، ولا يدفعوا أتباعهم إلى المهالك وهم بعيدون عنها سالمون. حين أمره أن لا يعرِّض نفسه للأذى، والعذاب.

لقد أثمرت الرحمة هذه ، فقد حفظ الرجل للنبي (صلى الله عليه وسلم) حرصه عليه، ورحمته به، فلما هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، وأقام دولة، جاء هذا الرجل، فدخل عليه، وقال له، هل عرفتني، قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) ، نعم أنت الذي لقيتني بمكة(1).

كان النبي (صلى الله عليه وسلم) بحاجة ماسة لهذا الرجل، لقلة من كان معه، لكن النبي رحمه، لأنه وحيد غريب، وتوقع النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يلحق به أذى كبير، فقال له : (أنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، إلا ترى حال وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)

رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) لحال هذا الرجل الصادق، كانت مقدمة على رغبته في بقائه، للإفادة منه في نشر الدعوة.

يصعب على من يتتبع مظاهر رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بأتباعه أن يغفل عن قصة عمار بن ياسر الذي كانت أمه أول من ماتت في سبيل هذا الدين، ولحقها أبوه بعد أن لقي أشد العذاب من كفار قريش.

كان كفار مكة يأخذون هذا الشاب، ويعذبونه عذاباً شديداً، حتى لا يدري ما يقول، وكانوا يطلبون منه أن يشتم النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى يتوقف عنه العذاب، ففعل، ثم جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) حزيناً، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) لما رآه ، ما وراءك يا عمار ، قال شرٌ يا رسول الله: ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) كيف تجد قلبك، قال مطمئناً بالإيمان، عندها قال له فإن عادوا فعد(2).

لقد بلغت رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بأصحابه مبلغها، حتى وصل الأمر به إلى أن يأذن لأحدهم أن يسبه شخصياً لينجو من عذاب المشركين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما منحه إذناً مفتوحاً. وكأنه يقول له كلما خيروك بين شتمي وبين العذاب فاختر شتمي ولا عليك، وكأني بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يحادث عماراً يتذكر بكل ألم أمه التي قتلت وأباه الذي مات بعد التعذيب، فرقَّ له قلبه، ورحمه هذه الرحمة الواسعة.

أترك لكم أعزائي الحضور تصور رحابة هذه الرحمة التي أفاضها النبي (صلى الله عليه وسلم) على عمار.

وهذا شاب آخر دفعته محبته للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وشدة إيمانه بما يدعو إليه، إلى أن يتقدم من النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويعرض عليه أن يستعين به لقتال أعدائه، على الرغم من شعوره بعدم رضا والديه وقت خروجه، لنسمع أعزائي قصة هذا الشاب.

قال عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال يا رسول الله، إني جئت أريد الجهاد معك، أبتغي وجه الله، والدار الآخرة، ولقد أتيت وإن والدايَّ يبكيان، قال: فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما (1).

أين هذا من حسرة آلاف الأمهات اليوم، ومن صرخاتهم، وهن يشاهدن أبناءهن يساقون إلى المعارك، دون علمهن، ودون مشورتهن، وكم نرى في وسائل الإعلام يومياً صوراً لأمهات ثكلى يصرخن، وهن يحملن صور أبنائهن، إما لأنهم قتلوا، أو أسروا، أو فقدوا، ولا أحد للأسف يسمع لهن، أو يمسح دموعهن، أو يقدر وضعهن، ولا تكاد تخلو بلد فيها حروب من هذه المناظر المؤسفة، ولا من جماعات وجمعيات لأمهات القتلى تطالب بالرحمة ولا مجيب .

لقد أبت رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يتجاهل هذا الشاب بكاء والديه، فأمره بالرجوع إليهما، حتى يعيد إليهما البسمة، لعلكم تتفقون معي أن أمهات اليوم يتمنين رئيساً يتخلق بهذا الخلق النبوي الرحيم ، يكون أباً للجنود ، وأخاً لأمهاتهم.

توقفت د. سارة برهة، وسألت الحضور قائلة من منكم بوده أن يسأل ويقول قد تكون هذه الحوادث فردية وخاصة بهؤلاء الأشخاص، ولا تمثل منهجاً عاماً. رفع قرابة سبعة أو ثمانية أشخاص أيديهم.

قالت لهم: إنه تساؤل مشروع، وقد خطر ببالي منذ عدة أيام، ولكنه سرعان ما ذهب أدراج الرياح، بعد أن وقفت على حوادث أخرى سأذكر لكم بعضها، وبهذه المناسبة، ما رأيكم لو أن بعضكم بحث في المصادر التي تحدثت عن سيرة نبي الرحمة(صلى الله عليه وسلم) لعله يجد أحداثاً مشابهة، وصوراً مماثلة، والأمر على أية حال، اختياري، لعلمي أن كثيراً منكم لديه ارتباطات والتزامات.

أعود للموضوع، فأقول إن الرحمة، لم تغب عن أي من مواقف النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا يتعذر على المتأمل أن يرى الرحمة كامنة، وراء هذه المواقف، أياً كانت الظروف.

عندما اشتد العذاب على المسلمين الضعفاء في مكة، رق قلب النبي (صلى الله عليه وسلم) لهم، وأمرهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، ورغبهم بالسفر إليها بقوله ( إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد (1))، فهاجر عدد كبير، فوجدوا فيها الأمن والأمان.

هذه أم سلمه، واحدة من أوائل من أسلم، وصارت فيما بعد زوجة للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وأماً للمؤمنين، تحدثنا عن هذه الحادثة، فتقول لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله، وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه، وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره، مما ينال أصحابه.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحدٌ، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار على خير جار، ولم نخش منه ظلماً)(2).

لا يخفى عليكم أعزائي الحضور، من سياق هذه الحادثة أن الرحمة والشفقة على هؤلاء هي التي دفعت النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أن يطلب منهم الخروج من مكة إلى الحبشة، على الرغم من حاجته إليهم، ورغبته في بقائهم بجانبه.

أعزائي الحضور ..

أمامي أحداث رحلة العمرة وأعني بها تلك الرحلة التي خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) هو وأصحابه في السنة السادسة من الهجرة، قاصداً مكة المكرمة، لأداء العمرة.

وحرص أن يخرج معه بعض القبائل، المجاورة له، حتى يتجنب المواجهة مع قريش، لكن هذه القبائل اعتذرت عن عدم الخروج.

أُخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن قريشاً علمت بمقدمه عليهم، وخرجت لمواجهته، فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتغيير الطريق، لتفادي الاشتباك مع قريش (1)، وفضل أن يسير طريقاً وعرة متعبة، على أن يواجه أعداءه، حتى لا تحصل بينهما حرب، رحمة بالطرفين.

لقد أكد هذا المعنى لوفد خزاعة، الذي قام بدور الوسيط بينه وبين قريش، حين قال لهم النبي (صلى الله عليه وسلم) إن قريشاً تضررت كثيراً، بسبب استمرار الحرب، وأنا اقترح عليهم هدنة. وما هذا إلا دليل على كراهيته للحرب، مع قدرته على خوضها، ولكن الرحمة تقتضي حقن الدماء.

لم يقتصر على هذه الوساطة، بل أرسل أحد أفضل أصحابه، وهو عثمان بن عفان(رضي الله عنه)، ليبين لقريش أن الرسول ما جاء إلاَّ زائراً للبيت معظماً له ولا يريد حرباً أو مواجهة.

استمر النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا المنهج المسالم، حتى عندما بلغه أن قريشاً قتلت رسوله إليهم عثمان، وتبين فيما بعد أن الخبر غير صحيح ، أغضبه ذلك كثيراً، وأغضب أصحابه، فبايعهم على الموت، إذا دعت الحاجة إلى مواجهة قريش، ومع هذا أبقى الباب مفتوحاً مع قريش وقال بشأنها ( والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيه حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)(2).

لقد وافق النبي (صلى الله عليه وسلم) على شروط قريش الظالمة، والمجحفة، وقد أثارت غضب بعض الصحابة، وهي في ظاهرها كذلك، فقد تضمنت أن يرجع النبي وأصحابه هذا العام، وشطبت من عقد الصلح كلمة محمد رسول الله ، إلى غير ذلك من الشروط الظالمة.

لقد تضمن موقف النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا دعوة إلى تقديم المصالح العامة على رغبات القادة، وأهدافهم الخاصة.

إن النبي (صلى الله عليه وسلم) يدعو إلى رحمة البلاد ومقدراتها، فهي لجميع الأطراف، وكأنه يقول: إن أية دعوة تهدف إلى المحافظة على الكعبة ومكة، فأنا موافق عليها مباشرة.

هذه دعوة نرسلها إلى بلاد كثيرة نسمع أخبار القتال فيها يومياً، والضحية فيها الممتلكات والمقدسات، وبالتالي يكون الجميع خاسراً.

لكن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يكون الجميع كاسباً والبلد سالماً.

لم يحدث في تاريخ دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) التي مضى عليها قرابة عشرين عاماً، أن تبرَّم الصحابة بين يديه، وكأنهم يعترضون عليه، وهم لا يقصدون هذا، وهي سابقة لم تحدث قط .

أعزائي الحضور ..

لم يكن يخطر ببالي قط أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سوف يحل هذه المشكلة، ويتجاوز بأصحابه هذه المحنة، بكلمة الرحمة، وبالدعاء بالرحمة لا غير.

من حقكم أن تسألوا كيف كان ذلك، بعد أن تم عقد الصلح، أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن ينحروا هديهم، وأن يحلقوا رؤوسهم، حتى يتحللوا من الإحرام، فلم يجب أحد منهم لشدة ما بهم من غم وقهر، حتى بعد أن كرر الأمر ثلاثاً.

دخل ساعتها على زوجه أم سلمه، وذكر لها ما حدث، فقالت له يا رسول الله، لا يخفى عليك حالهم، ولكن اقترح عليك أن تنحر وتحلق، ففعل هذا، ثم خرج عليهم، وقال لهم، يرحم الله المحلقين، قالها ثلاث مرات، فقاموا فنحروا، وأخذ بعضهم يحلق لبعض، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً غماً(1).

لقد أطلت عليكم بسرد هذه الأحداث، والحق أنها ليست مقصودة لذاتها، ولا أود أن أسترسل في التحليل، والتعليق عليها، وأدع هذا لفطنتكم. والتي لن تغيب عنها ظاهرة الرحمة، والحرص على استحضارها، وإشاعتها، منذ أن خرج من بيته، حتى ابرم الصلح مع قريش، وتجاوز الأزمة مع أصحابه، على الرغم من العقبات الكثيرة، والاستفزازات المتلاحقة، والتي أعرضت عن التفصيل فيها.

لكن اسمحوا لي أن أقول تصوروا معي لو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تابع أصحابه، واستغل حماستهم، وتجاوبهم معه، وبيعتهم له على الموت، لو وظف ذلك كله، وأصر على الدخول إلى مكة، وأصرت قريش على موقفها، لحصل بينهم قتال، لا تحمد عقباه، وربما قتل فيه المئات من الطرفين، لأن التحفز وصل مداه، والتحدي من الطرفين بلغ مبلغه.

إن شيئاً من هذا لم يحصل، لأن رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) كانت حاضرة، مع كل حدث، هي الموجهة له، وهي المهيمنة عليه، حتى وإن أدى هذا إلى حرج للنبي (صلى الله عليه وسلم) من أتباعه، وأعدائه، على السواء.

لقد تحمل ما تحمل، كما أشارت مجريات الأحداث، ولكنه لم يغير أو يتنازل عن منهج الرحمة، والتي برزت مظاهرها بكل وضوح على الفريقين، فيما بعد. فقد توقفت الحرب لسنوات، وتبادل الأقارب من الطرفين الزيارات، وأسلم من الكفار العشرات.

ألا يمكن القول بعد هذا، إن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) قاتل بالرحمة خصومه، وساس بالرحمة أتباعه.

أذكر في هذا المقام مقولة سجلتها عندي للعالم الأسباني جان ليك حين قال ( لا يمكن أن توصف حياة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) بأحسن مما وصفها الله بقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء : 107 ) لقد كان نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) رحمة حقيقية، وأني أصلى عليه بلهفة وشوق(1).

شكرت الحضور، قائلة للحديث بقية، وإلى اللقاء.

 

--------------------------------------------------------------------------------

(1) رواه البخاري، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، ح 6000 .

(2) صحيح مسلم، باب رحمته (صلى الله عليه وسلم) الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، الحديث رقم 6030 .

(3) رواه الترمذي، باب ما جاء في رحمة المسلمين، حديث رقم 1924، وقال عنه حديث حسن صحيح، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج2، ص 925 .

(1) رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، انظر المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح ، ص 779

(2) حديث صحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج3، ص 223

(3) حديث صحيح ، المرجع السابق ، ج3، ص 223

(4) صحيح مسلم ، باب استئذان النبي (صلى الله عليه وسلم) ربه عز وجل في زيارة قبر أمه ، الحديث رقم 2259

(5) صحيح مسلم ، باب البكاء على الميت ، الحديث رقم 2137

(1) الشنة : صوت قربة الماء.

(2) صحيح مسلم، باب البكاء على الميت، الحديث رقم 2135.

(3) صحيح مسلم ، باب رحمته (صلى الله عليه وسلم) الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك، الحديث رقم 6025.

(1) انظر سيرة ابن هشام، ج3، ص 245، طبقات ابن سعد، ج2، ص 56 .

(2) رواه البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة، ح 2732.

(3) رواه البخاري، كتاب الأدب ، ح 5967.

(1) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن.

(2) رواه أبو داود، باب كراهية حرق العدو بالنار ، ح 2675، وهو صحيح انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج1، ص 487، الألباني.

(1) رواه البخاري، باب رحمة الناس والبهائم، الحديث رقم 6009.

(2) رواه البخاري، باب فضل سقي الماء، ح 2365.

(1) رواه مسلم، باب إطعام المملوك، ح 4315

(2) رواه مسلم، باب إطعام المملوك، ح 43147

(1) رواه البخاري، باب السمر مع الضيف والأهل، ح 602

(2) أرقام تحكي العالم، ص 220، محمد صادق مكي، ط1، 2006م، دار البيان، الرياض.

(3) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 323، اينين رينيه.

(1) انظر دستور الأخلاق، ص 611 – 612 بتصرف وزيادة، د. دراز

(1) المصدر السابق، ص 615 بتصرف يسير، د. دراز

(1) نابليون بونابرت، ص 10، العقيد محمد صفا، ط1، 1988م، دار النفائس

(1) انظر صحيح مسلم ، باب إسلام عمرو بن عبسه ، ح 1930، السيرة النبوية دروس وعبر ، ج1، ص 277، الصلابي

(1) انظر صحيح الإمام مسلم، باب إسلام عمرو بن عبسه ـ الحديث رقم 1930

(2) زاد المسير، ج4، ص 495، ابن الجوزي ،و فقه السيرة ، ص 103، بتصرف، محمد الغزالي، ط4، 1989م، دار القلم، دمشق

(1) رواه ابن ماجة، باب الرجل يغزو وله أبوان، الحديث رقم 2782، وهو حديث صحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج2، ص 387

(1) انظر السيرة النبوية، ج1، ص 413، ابن هشام ، والسيرة النبوية الصحيحة، ج1، ص 170، د. أكرم العمري

(2) السيرة النبوية، ج1، ص 397، عبد الملك بن هشام، دار الفكر

(1) السيرة النبوية، ج3، ص 338، عبد الملك بن هشام، دار الفكر

(2) رواه البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة، ح 2731

(1) رواه البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح 2732، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 4910، د. مهدي رزق الله

(1) الرسول في عيون غربية منصفة، ص 88 ، الحسيني معدِّي