Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          الحلوى

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت ):كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل)  متفق عليه

تتجلى في رسالة النبي"كل معاني الرحمة؛ فقد رفع الله عن أمته الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فيسر لها الدين، ورفع عنها الحرج ( محمد الحمد)

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
مظاهر الرحمة في شخصيته

حان وقت المحاضرة الثالثة، فتوافد المتابعون لمحاضرات الدكتور سارة، ويُلاحظ أن الحضور زاد قليلاً في هذه المحاضرة عمَّا كان عليه من قبل، دخلت الدكتورة فبادرها هذه المرة الحضور بالترحيب بها، فردت عليهم بمثل تحيتهم، ثم قالت:

يمكن أن نختصر بإيجاز الأسباب التي أدت إلى أن يقف غير المسلمين من نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) موقفاً سلبياً، وبخاصة العالم الغربي منهم، ثم صمتت برهة، وقالت أليس هذا ما طلبه أكثركم؟ أوليس هذا هو الموضوع الذي تتوقعون أن نتحدث عنه في هذه المحاضرة؟ وكانت في أثناء هذا تبتسم للحضور، وتستطلع آراءهم.

أجابها جمع منهم، بلى، بلى، هذا ما اتفقنا عليه، وهذا ما توقعناه، ونشكر لك سرعة الإجابة.

بدأت د. سارة حديثها بالقول، لا أنكر أن لهذه المسألة صلة بموضوعنا، الذي نعرض له، بيد أني لا أود التوسع فيها، بخاصة أننا قد نضطر إلى أن نعرض له في المحاضرات القادمة، ونحن نذكر بعض المواقف للنبي ونحللها.

إن أول ما شد انتباهي في هذه المسألة، رأي ورد عن المؤرخ والكاتب الإنجليزي ر. ف . بودلي، كان بالنسبة لي بمثابة المفتاح، مفاده ، أن من سوء حظ نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) عند الغرب أنه جاء بعد السيد المسيح (1)، وبيان ذلك فيما يبدو لي اعتقادهم السائد بأن من يأتي بعد المسيح من الأنبياء فهو زائف، ودينه الذي يأتي به غير صحيح، وسوف يكون على حساب الديانات السابقة، وهو ما قاله صراحة أحد مفكري الغرب: ( لقد أمكن لمحمد أن يكوِّن إمبراطورية سياسية ودينية، على حساب موسى والمسيح)(2).

إن هذا الوهم، مبني على أوهام سابقة له، أولها افتراضهم أن دعوة نبي الرحمة(صلى الله عليه وسلم) مخالفة لدعوة المسيح، وهذا غير صحيح، وثانيها جهلهم بأن السيد المسيح بشَّر بنبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) ، وحث أتباعه على الإيمان به، وقد تضمنت جميع الأناجيل إشارات إلى نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) وبشارات بقرب ظهوره، ويمكن لمن يريد الوقوف عليها، الرجوع إلى إنجيل متى (24 : 44) وإنجيل يوحنا (6 : 27) وإنجيل اشعياء (9 : 6) وغيرها كثير(1) .

وجاءت هذه البشرى صريحة في القرآن الكريم )وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ( )الصف:6 (.

وكان في المقابل، حديث القرآن الكريم، عن المسيح، حديثاً رائعاً، تضمن المدح، والثناء، والتعظيم، والتقدير، فالخلاف عند من يتوهم الخلاف بين السيد المسيح ونبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، لا وجود إلا في أذهان بعض من لا يقيمون للحقائق وزناً، أو أولئك الذين اتخذوا موقفاً مسبقاً من نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم).

أتمنى على أتباع المسيح بهذه المناسبة، أن يطَّلعوا على مكانة المسيح عند نبي الرحمة محمد من خلال ما جاء في القرآن، وفي أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم يعاملوه بمثل ما كان يعامل به المسيح، وأعتقد أن هذا عين الإنصاف، وكذلك يعاملوا النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) بمثل ما يعامل به المسلمون السيد المسيح، وأعتقد أعزائي الحضور إنها دعوة عادلة ومنصفة.

ترى هل يعلم أتباع السيد المسيح، أن النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) حمل حملة شديدة على اليهود المجاورين له في المدينة، بسبب تطاولهم على أم السيد المسيح، في وقت لم تكن فيه صلات، أو جوار بينه وبين أتباع المسيح، وقد سجل القرآن هذا التوبيخ لليهود حين ذكر عدداً من أخطائهم كان منها ما قاله الله تعالى عنهم: )وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً( )النساء : 156 (.

الأمر الثاني: الذي أدى إلى سوء الفهم هذا، هو أن غير المسلمين، نظروا إلى نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) في ضوء مواصفات استقرت في أذهانهم عن عظمائهم، وصارت عندهم بمثابة الميزان.

فأتباع المسيح لم يروا في المسيح إلاَّ تسامحه، وعفوه حتى قالوا إن عظمته كانت في خسارته(1)، أما أنا فأرفض أن يقال إن نبياً ما خسر أمام قومه، وكذلك أتباع بوذا، استقر في أذهانهم، أن مواصفاته، هي مواصفات القديس العظيم، والتي كان أبرزها الزهد وهجر الدنيا وملذاتها.

ظنَّ هؤلاء أن من سيأتي بعد المسيح سوف يكون لا محالة، على نقيضه، بخاصة أنه بدا من النبي محمد تصرفات تناقض الرحمة والتسامح في نظرهم، فتوهموا أنه سيكون متسلطاً، متعطشاً للانتقام، لا يعرف الرحمة، ولا التسامح، فوصف بعضهم نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) بهذه الأوصاف، دونما علم، أو روية، وكذا الحال بالنسبة لأتباع بوذا أو غيره.

أقول لكم بكل وضوح وصراحة، إذا كانت العظمة تعني رهبانية القسيس، وتسامحه مع خصومه، وعفوه عن أصحاب الأخطاء وتجاهله إصلاحهم، وإذا كانت العظمة تعني زهد بوذا، الذي هجر أهله، وبيته، وهام على وجهه في الغابات، وإذا كانت العظمة تعني تعذيب الراهب الهندوسي نفسه، بترك الطعام، والنوم لعدة أيام.

إذا كانت هذه هي مظاهر العظمة، فإن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) ليس عظيماً بهذه المواصفات، لأنه حينئذ لن يكون مصلحاً، يأخذ بأيدي الناس إلى الفضائل، ويبعدهم عن الرذائل، وإنما سيكون عظيماً بعيداً عن واقعهم صالحاً في نفسه فقط، يكتفون بالإعجاب به، أو التعجب منه، فقط دون متابعته لصعوبة هذا، وهم لا شك معذورون، وبهذا يفقد المصلح دوره، وتنتفي وظيفته، وهذا ظاهر بيِّن في سيرة بوذا الذي اعتزل الحياة، ومات وحيداً، وفي سيرة زرادشت الذي اعتزل الناس في جبل حتى أدركته الوفاة (1).

إن هذا المسلك لا يسر النبي (صلى الله عليه وسلم) ، كما لا يسر أتباعه، لأن هذا سوف يرهقهم، ويجعل بين سلوك نبيهم وسلوكهم حاجزاً منيعاً، لقد كانت عظمة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) في واقعيته، وبساطته، ولعله يتضح في ضوء هذا أن من أسباب أزمة غير المسلمين مع نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) غياب هذه المعاني، وفي سوء الموازين التي وزنوا بها مظاهر العظمة.

أما الأمر الثالث: وأختم به، فهو ذو صلة بموروثات وخلفيات قديمة، أدع د. أليكسي جورا فيسكيس ـ وهو من الشخصيات التي أحترمها ـ أدعه يبين هذا الأمر، من خلال وجهة نظره في هذا الموضوع، حيث يقول: ( إن أدب أوروبا في القرون الوسطى حول الإسلام وُضعَ في غالبيته العظمى من طرف رجال الدين المسيحيين، الذين استندوا إلى مصادر شديدة التمايز، والتباين، كالحكايات الشعبية، وقصص الأبطال، والحُُجاج والقديسين، والمؤلفات الجدلية ـ اللاهوتية الدفاعية للمسيحيين الشرقيين، وشهادات بعض المسلمين، وترجمات مفكريهم وعلمائهم).

كانت المعلومة المقدمة تنتزع في معظم الحالات من سياقها الأصلي، ثم تقدم إلى القارئ الأوروبي، وبهذا الشكل شوهت الوقائع بصورة متعمدة ـ واعية أحياناً، أو بشكل غير واعٍ في أحيان أخرى ـ في إطار البحث الحماسي عن حل سريع لـ ( مشكلة الإسلام ) التي سيطرت في القرون الوسطى على الموضوعات الدينيةـ الأيديولوجية )(1).

ويتفق مونتغمري واط مع هذا التحليل، فيقول تكونت في وعي الأوروبيين ( في القرون الوسطى) ملامح اللوحة التالية عن الإسلام: إنه عقيدة ابتدعها محمد، وهي تتسم بالكذب والتشويه المتعمد للحقائق، إنها دين الجبر، والانحلال الأخلاقي، والتساهل مع الملذات والشهوات الحسية، إنها ديانة العنف والقسوة، وانسجاماً مع هذا الموقف المعادي.

أضاف قائلاً: فقد رُسم الإسلام على هيئة نموذج قبيح سيئ، يتعارض ويتناقض كلية مع النموذج المثالي للمسيحية بوصفها ديانة الحقيقة، التي تتميز بالأخلاق الصارمة وروح السلام، وبأنها عقيدة تنتشر بالإقناع وليس بقوة السلاح(1).

يمكن في ضوء هذا التحليل، أن نفهم بكل يسر ما قرره الأستاذ ساذرت وهو يتحدث عن التوجه العام، الذي ساد الساحة العلمية في الغرب، حين يقول: ( إن الشيء الوحيد الذين يجب أن لا نتوقع وجوده، في تلك العصور، هو الروح المتحررة الأكاديمية، أو البحث الإنساني، الذي تميز به الكثير من البحوث التي تناولت الإسلام في المائة سنة الأخيرة)(2).

هذه العوامل مجتمعة، أدت إلى سوء فهم نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، ولا شك هناك غيرها، وهي تتفاوت فيما بينها، من حيث قوتها وأثرها، وأحسب أن أكثرها وضوحاً، وأعمقها أثراً، هو الثالث منها، والذي أوضحه بجلاء، اثنان من كبار المستشرقين الذين درسوا سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم).

على أية حال، لا أود أن نشغل أنفسنا بهذه المسألة، ولولا أني سئلت عنها لما عرضت لها، لأن منهجي يقوم على بيان الحقيقة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم أضعها بين يدي من أبادلهم الحب والاحترام، وحسبي هذا وهو منبع سروري.

إن كنت أعترف بوجود صراع بين المعلومات، ناتج عن صراع الثقافات، وهو ما يسمونه بكل أسف صراع الحضارات، إلاَّ أني في الوقت نفسه، أعتقد جازمةً، أن البقاء للمعلومة الصحيحة، لأنها في داخلها تحمل عوامل قوتها وبقائها.

لقد ثبت لدي من خلال حوارات مع بعض الزملاء، أن المعلومة الصحيحة، تفرض نفسها، وتنتزع احترامها، بل وتمنح الاحترام في الأوساط العلمية، لمن يُعنى بها ويقدرها.

وإنْ حاول أحدٌ أن يزدري بمعلومة توارث الناس التسليم بصحتها، فإنه في الواقع يزدري بنفسه، وهذا واحد من أسباب عدة جعلت أساتذة كباراً يسلمون بصحة معلومات لا تروق لهم، لكنهم سمحوا لأنفسهم في التوسع بتفسيرها، كما يحلو لهم، وتحميلها في بعض الأحيان مالا تحتمل، وهذه مسألة أخرى على أية حال.

بدا على الدكتورة سارة وهي تستعد لاستكمال المحاضرة بعد استراحة قصيرة السرور وانشراح الصدر، وكذا الهمة والنشاط، وكأنها المحاضرة الأولى لها، ولقد صدق قولها، بعض هذا الشعور، حين قالت، يمكن أن تعد المحاضرات السابقة بمثابة مقدمات لما سيأتي، حيث إننا سنقصر حديثنا على خلق الرحمة، ومظاهره في سيرة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم).

يحسن بنا أعزائي الحضور، أن نلقي بعض الضوء، على سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، قبل الشروع في هذه المحاضرات، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ينتهي نسبه إلى نبي الله إسماعيلu، الذي نشأ في مكة، وإسماعيل هو ابن نبي الله إبراهيمu.

ينتسب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى أشهر وأشرف قبيلة عربية في عصره، وهي قبيلة بني هاشم من قريش، وأمه آمنة بنت وهب، من بني زهرة، وهي قبيلة عربية مشهورة.

وُلد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) سنة 570، لميلاد السيد المسيح، وهذا ما ورد في أغلب المصادر التاريخية الموثوقة، وإن كان بعض العلماء يرى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولد سنة 571، فلا أعُد هذا خلافاً، إذ يبدو لي أنه ولد في أواخر سنة 570.

كانت ولادته في مكة المكرمة، وهي مدينة قديمة ، تقع في الجزيرة العربية، من قارة آسيا، وقد اطلعت على بحوث، ودراسات مستندة إلى صور للأقمار الصناعية، ومركبات الفضاء، تبين أن مكة هي مركز الدائرة ، بالنسبة إلى الأرض، ويمكن لكم الاطلاع على هذه الدراسات، للوقوف على هذه الحقيقة العجيبة.

تُوفي والده وأمه حامل به، فولد يتيماً، ولما ولدته أمه ، وكان ابنها الوحيد، قامت على رعايته، إلى أن توفيت، وكان عمره ست سنوات، ثم كفله بعدها جده عبد المطلب، ولما بلغ محمد (صلى الله عليه وسلم) الثامنة من عمره، تُوفي جده، فضمه عمه أبو طالب، إلى أولاده، وصار يرعاه كأنه واحد منهم.

لماَّ شارف محمد (صلى الله عليه وسلم) على سن الشباب، بدأ يعمل، ليعيل نفسه، فاشتغل في رعاية الغنم لأهل مكة، ثم عمل بعد ذلك في التجارة، وصار يسافر خارج الجزيرة العربية، وكان معروفاً بين قومه، منذ نعومة أظفاره، بالصادق الأمين.

كان يتاجر بأموال امرأة شريفة كريمة، من سيدات مجتمع قريش، وهي خديجة بنت خويلد، وقدَّر الله أن يتزوجها، وكان عمرها آنذاك، أربعين سنة، وعمر النبي (صلى الله عليه وسلم) خمسة وعشرون عاماً.

كان له أربع بنات، وولدان، كلهم من زوجته خديجة، وقد عاشت حتى بلغت خمسة وستين عاماً، ولم يكن عنده زوجة غيرها طوال حياتها.

تُوفي أولاده، وبناته جميعاً في حياته، إلاَّ بنتاً واحدة، وهي فاطمة، فقد توفيت بعده بستة أشهر.

لما بلغ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) سن الأربعين، أنزل الله تعالى عليه رسالة الإسلام، وبدأ يدعو الناس إليها، ومكث في مكة ثلاث عشرة سنة، ثم انتقل إلى المدينة، وهي بلدة تبعد قرابة 500 كم عن مكة بعد أن آمن به أكثر أهلها وعُرفوا في التاريخ الإسلامي باسم الأنصار.

ظل النبي (صلى الله عليه وسلم) يدعو إلى دين الإسلام، ثلاثة وعشرين عاماً، وأقام دولة إسلامية في الجزيرة العربية.

وقد توفي بعد أن بلغ من العُمر ثلاثة وستين عاماً، ودفن في المدينة المنورة سنة 633 للميلاد.

لقد عاش النبي (صلى الله عليه وسلم) حياته كلها، بسيطاً في طعامه، وشرابه، ولباسه، كانت تمر عليه بعض الأيام، لا يجد ما يأكله، لا هو ولا أهل بيته، وكان متواضعاً، قريباً إلى الناس جميعاً، يحبهم ويحبونه(1).

كانت حال البشرية في هذا الوقت، غاية في السوء، بإجماع من كتب في تاريخ الأمم والشعوب، فقد اختفت معالم الفضائل، وبرزت صور متعددة للرذائل، التي لا يختلف عليها اثنان، على مر الأزمان، مثل قتل البنات، وزواج المحارم، فقد سطا القوي على الضعيف، وانتشر الظلم والعدوان، ونشبت الحروب، لأبسط الأسباب، ولم تسلم أي من البيئات في ذلك الوقت، من هذه الأحوال الشنيعة.

لما كان يتعذر علينا التفصيل، في كل مظاهر هذا الفساد، والانحطاط، نظراً لضيق الوقت، وحتى لا نشغل عن موضوعنا الأصيل، وفي الوقت نفسه، يصعب علينا تجاهله بالكلية، لأنه يعين كثيراً على فهم قضايا كثيرة، فإن فهم الحاضر يستدعي أحياناً استحضار الماضي، فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فأذنوا لي أن أُمثِّل بمظهر واحد، أحسبه كفيلاً بتقديم صورة واضحة لذلك الوضع، وهو حال المرأة آنذاك، وأبيح لنفسي أن أكون في هذا المقام منحازة لبنات جنسي، وسوف أعرض له بإيجاز شديد (2).

تعرضت المرأة في الجزيرة العربية ـ البيئة التي عاش فيها نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) ـ لأبشع أنواع الظلم، فقد كانت أحياناً، تدفن في التراب حية، وهي صغيرة.

وقد سجل القرآن الكريم هذه الفعلة الشنيعة بقوله: )وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ( )التكوير:8 ، 9(. وكانت تعد من متاع البيت، إذا مات زوجها ورثها أقاربه، كأنها قطعة من محتويات البيت.

ولم تكن المرأة أحسن حالاً في البيئات المجاورة لبيئة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، فقد كان المجتمع الروماني، غرب الجزيرة العربية، يسمح للزوج بأن يقتل زوجته، بما عرف عندهم بزواج السيادة(1)، وكان يبيح للأب أن يتخلى عن طفلته المولودة حديثاً، حتى لو تركها في الطريق حتى تموت، وليس هذا بمستغرب، فقد سادت في المجتمع الروماني، ثقافة القسوة والقتال، ولم يكن للرحمة فيه أدنى قيمة.

أما المجتمع الفارسي، شرق جزيرة العرب، فيكفي أن نعرف أنه ظهرت في هذا المجتمع مبادئ المزدكية، التي دعت إلى الإباحية،وأنه كان يجيز زواج المحارم، فيسمح مثلاً للأخ أن يتزوج أخته، وإذا ابتعدنا قليلاً، وذهبنا إلى بلاد الهند، فإننا سنجد أن المرأة تحرق وهي حية، بعد وفاة زوجها ، إذ لا معنى لبقائها بعده، وكانت الحضارة اليونانية، تحتقر المرأة، حتى قال أحد فلاسفتهم، يجب أن يحبس اسم المرأة في البيت، كما يحبس جسدها.

لا أود أن أسترسل في هذا الحديث، الذي لا يروق لنا جميعاً، ولكنها إشارات تؤكد خلو هذه المجتمعات من مظاهر الرحمة، ومعالم الإنسانية، وانتشار الظلم والقسوة.

ولقد لخص وليم موير الوضع آنذاك، بقوله: ( لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه، وقت ظهور النبي محمد ، ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم كالذي تركه عند وفاته)(2).

إن كان ثمة بعض صور للرحمة، والتسامح، متناثرة هنا وهناك، وهي مما لا ننكره، فإنها تبقى تصرفات فردية، لا تكاد ترى، أو تؤثر في المجتمع، بإزاء صور الظلم، والتسلط، والعدوان، السائدة آنذاك على نطاق واسع.

بعث الله الرحمن الرحيم، في هذه البيئات، وإلى هؤلاء الناس، نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) رحمة بهم، وأنزل عليه ديناً هو الرحمة بعينها، وهو ما يشجعنا على القول إن البداية كانت من هنا، إنها رحلة الألف ميل، التي كانت هذه خطوتها الأولى، إنها رحلة البشرية إلى عالم الرحمة والتراحم، والحق أن هذا الكلام ليس كلاماً عاطفياً، ولا صادراً من فراغ، وإنما هو ثمرة بحث وتحليل، ويبقى المستمع هو الحكم، ولطالما وثقت به واحترمته.

لقد بدأ نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) منذ فجر دعوته، ينشر ثقافة الرحمة، بين الناس، على الرغم من أن البيئة الأولى التي عاش فيها ـ وهي مكة ـ ثلاث عشرة سنة يدعو فيها إلى الرحمة، كانت بيئة معادية له، بكل إمكاناتها، ليس للرحمة فيها مكان يذكر، إلاَّ مواقف محددة محاصرة أملتها على أصحابها القيم العربية التي لم تختف معالمها على الرغم من شيوع ثقافات منافية لهذه القيم التي صارت غريبة، ولم يكن معه أعوان، باستثناء أفراد مضطهدين يزيدون كل يوم، على الرغم مما كانوا يتعرضون له من ظلم، واضطهاد.

بدأت مظاهر رحمة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، بأتباعه وأعدائه على حد سواء، منذ اليوم الأول لدعوته، وهو ما استرعى انتباه الباحثين في سيرته، حين ألزم نفسه، وألزم أتباعه، بعدم الرد على إساءات أعدائهم، وكان ينفذ بهذا توجيهات ربه، حين قال له: )كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ( )النساء : 77 (، ووجهه في مقام آخر قائلاً له: )فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( )الزخرف: 89 (، وفي موضع ثالث أمر الله نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) وأتباعه بالعفو والصفح فقال: )فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ( )البقرة:109(.

لقد كانت الرحمة منذ الأيام الأولى، حاضرة ظاهرة، في هذا المنهج، ليستقر في أذهان الناس جميعاً، أن كلمة الفصل للمبادئ ، والصراع هو صراع معتقدات وحسب، والبقاء فيه للأصلح، دون مؤثر خارجي من قوة أو غيرها من المؤثرات، والنبي (صلى الله عليه وسلم) عازم على هذا المنهج، وهو يعلم أن خصومه لن يوافقوه عليه، كما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأى خيراً ورحمة في هذا المنهج الذي يقوم على الصفح، والصبر، والتسامح، لأن من آمن بالنبي، ومن كفر به، أبناء مجتمع واحد، تجمعهم صلات القربى، والجوار، وربما يضمهم بيت واحد.

لقد كان من رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بهم جميعاً، أن نهى أتباعه عن القتال، والرد بالمثل، حتى لا يقتل الأخ أخاه، أو الصديق صديقه، أو الجار جاره، ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.

لقد استمر هذا المنهج الفريد، والغريب، على هذه البيئة سنوات عديدة، فقد اعتاد الناس في هذه البيئات، أن يحلّوا مشاكلهم حتى اليسيرة بالقتال، وقد فكَّر أعداء نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) في مكة بهذا الأمر، وقالوا له صراحة: (كأنك تريد أن يعظم بيننا الخلاف، حتى يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى)(1)، أي يقضي بعضنا على بعض، حتى لا يكاد يبقى منا أحد، لكنهم لم يعلموا أن النبي، يفكر بغير ما يفكرون به، ولديه منهج غير مألوف، سوف يشهره في وجوههم بدل السيوف.

قد أفصح النبي (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المنهج حين طلب منه أتباعه، أن يدافعوا عن أنفسهم، بسبب ما يتعرضون له من أذى، فقد قالوا له، يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال لهم: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم(2).

وهاهم اليوم جميعاً رضي من رضي وكره من كره أمام منهج جديد، يواجه الخلافات ـ ولو من طرف واحد ـ ، بالدعوة إلى الرحمة، والتسامح، والعفو.

لقد لفت النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا انتباه البشرية، قديماً وحديثاً ، إلى أن الرحمة كفيلة بأن تهيئ المناخ المناسب للحوار والتفاهم بين الناس، على الرغم مما بينهم من اختلاف في الآراء والأجناس.

فإن الكراهية تعمي، وصوت القوة يصمي، وعندها تسود شريعة الغاب.

لم يكن خلق الرحمة في نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) سلوكاً شخصياً وحسب، دونما التفات منه إلى المحيطين به، كما هو حال بعض العظماء، حين جعلوا من الأخلاق الحميدة، صفات شخصية، امتازوا بها عن أبناء مجتمعهم الذين استمروا على ما هم عليه مثل زهد بوذا مثلاً، حتى قد يتوهم أنها أخلاق نخبة لا صلة للعامة بها، وهم غير مطالبين بالتمثل بها.

فقد تخلق النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا الخلق، ثم أمر به الناس، وتعاهده بأقواله وأفعاله حتى أمكن القول بلا تردد إن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) بهذا التصرف أوجد بيئة ينمو فيها خلق الرحمة، وتنتشر فيها بالتدريج ثقافة التراحم، بغية أن تصبح الرحمة خلقاً جماعياً، بعد أن كانت خلقاً فردياً ـ لدى قلة منهم ، ضعيفاً منزوياً، ألا يمكن القول إن سلوك نبي الرحمة يُعد رسالة إلى المصلحين والعقلاء داخل المجتمعات البشرية، في كل زمان ومكان ، تحمل في طياتها ضرورة أن يقوم هؤلاء بالدعوة إلى الفضائل التي يحملونها، وبذل غاية الجهد في سبيل إقناع الناس بها، وإن لا يقنعوا بالإيمان بها هم، ثم ترك الناس على ما هم عليه.

لقد اجتهد نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) أيما اجتهاد في ترسيخ هذا الخلق، على الرغم مما لاقى هو وأصحابه، في سبيل هذا من أذى، ومشقة، وتعسف، من قبل أعداء عتاة قساة في طبعهم، اعترضوا على شخصه، ولقد سجَّل القرآن الكريم اعتراضاتهم هذه، لتكشف عن قسوتهم وسوء طويتهم، حين ذكر مقولتهم: )وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ( )الزخرف: 31 (، واعترضوا على مبادئ دعوته، واعترضوا على أتباعه.

وضع أعداؤه في مكة، القاذورات على رأسه، وهو ساجد، حتى إنه لم يتمكن من رفعها، فجاءت ابنته فرفعتها، وتعرض للضرب في إحدى المرات، وبصق عليه أحدهم، وكانوا دائمي السخرية منه(1).

وسخر أعداء النبي و هؤلاء، أيضاً من المبادئ التي يدعو إليها، فقد كان يدعو إلى عبادة إله واحد، وقد ذكر القرآن الكريم اعتراضهم هذا حين قال: )أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ( )ص : 5 (.

كما عذَّبوا أتباعه، بأبشع صور التعذيب، فقد قتلوا سمية بنت خباط، بعد تعذيبها(2)، وهنا توقفت الدكتورة سارة عن الكلام قليلاً، ثم نظرت إلى الحضور، وهي تتبسم، ويبدو عليها بعض التأثر، وقالت لهم، يسعدني أن أنحاز مرة أخرى في هذه المحاضرة إلى بنات جنسي، لأقول لكم، إن امرأة كانت أول من ضحى بنفسه، وقتل في سبيل تعاليم دين الرحمة، ثم مات زوجها ياسر تحت التعذيب، وتعددت صور التعذيب، وامتدت إلى فترات طويلة.

قبل أن أسترسل في عرض هذه الأحداث، أود أن أشير إلى مسألة منهجية ذات أهمية، خلاصتها أنني حين أعرض هذه القصص والحوادث أمامكم، إنما أريد أن أخلي بينكم وبينها بغية استخلاص ما فيها من معالم ودروس تُظهر معالم نشر الرحمة بين الناس.

وثمة أمر آخر لا يقل أهمية، وهو أن طبيعة المحاضرات الثقافية، تستوعب ذكر هذه القصص الصحيحة الثابتة، لأن النفوس تأنس بها، بخاصة أننا بحثنا عن مثلها في سير العظماء الذين سبقوا نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) فلم نكد نظفر بشيء منها.

وأمر ثالث أختم به، وأرجو المعذرة لهذا الاستطراد، وهو أني كنت أحب كثيراً وأنا على مقاعد الدراسة أن يذكر لنا المحاضر مثل هذه القصص، لأنها في نظري تختصر المسافة كثيراً، وافترض أنكم مثلي، عندها تكلم بعض الحاضرين بما يفهم منه الموافقة على كلامها.

ولا يفوتني هنا أن أذكر أيضاً، صورة من صور التعذيب، التي حصلت لامرأة على يد أهل مكة، وهذه المرأة هي أم سلمه، التي صارت فيما بعد زوجة للنبي(صلى الله عليه وسلم) بعد وفاة زوجها، فقد ذكرت طرفاً من قصتها هذه، أدعها تقصها عليكم ( قالت: لما قرر أبو سلمة الهجرة ـ تعني زوجها ـ ، حملني أنا وابني سلمة على بعير لنا، وخرج بنا إلى المدينة، فاعترضه رجال من بني المغيرة، وهم أهلي، وقالوا له: لا ندعك تخرج بابنتنا، وأخذوني منه ومعي ابني، فلما رأى بنو عبد الأسد ـ وهم أهل زوجي ـ ما صنع أهلي ، قالوا: والله لا نترك ابننا عندها، إذ نزعتموها من صاحبنا.

قالت: فتجاذبوا ابني بينهم، حتى خلعوا يده، وظفر به أهل زوجي، بنو عبدالأسد، وانطلق بي أهلي بنو المغيرة، ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني الصغير بعد أن خلعت يده، فكنت أخرج كل يوم إلى أطراف مكة، فما أزال أبكي من الصباح حتى المساء سنة، أو قريباً منها)(1)

ولا أود أن أعلق شيئاً على هذه القصة، فحسبها أن تكون لوحة مأساوية، تتحدث عن نفسها.

كان الرد من نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، الدعوة إلى التسامح والتراحم، وهو أمر شاق على النفوس، وكان للقرآن الذي ينزل بمكة آنذاك دور في نشر ثقافة الرحمة، فقد كان يحث على الصبر، ويقص على المسلمين أخبار من سبقهم، من المؤمنين من الأمم السابقة، ليخفف عنهم.

إن مما يلفت الانتباه أيضاً، أن القرآن لم يتضمن قط الدعوة إلى قطع صلة الرحم، بين من أسلم ومن بقي على كفره، ولم يأذن بلعنهم، أو ترك البر والإحسان بهؤلاء الذين يحاربون النبي (صلى الله عليه وسلم) ويعذبون أتباعه.

لقد خطر ببالي تساؤل، أود أن أطرحه عليكم أيها الأعزاء، والحق أنني لم أرَ أحداً ذكره، ألا تلاحظون من هذا العرض الموجز، أن ثمة تشابهاً واضحاً بين دعوة السيد المسيح، ودعوة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) في مكة، فكلاهما كان يدعو إلى التسامح والعفو.

ربما أذهب بعيداً إن قلت أن ظاهرة التسامح والعفو، كانت أكثر وضوحاً في دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من دعوة المسيح، لأن نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) حصل بينه وبين خصومه عداوة ظاهرة، وطالب أتباعه منه مراراً بالسماح لهم بمقاتلة عدوهم ، لكنه أصر على التمسك بهذا الخلق وألزم به أتباعه، وكان يصر على وجوب التخلق بخلق الرحمة، رغم الاستفزازات الكثيرة، التي صدرت من أعدائه في مكة، ورغم ما تعرَّض له أتباعه من تعذيب.

إنها رسالة إلى أولئك الذين أساءوا فهم نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، حين توهموا أن دعوته نقيضة لدعوة المسيح، ولقد أعجبتني عبارة للكاتب الإنجليزي الكبير برناردشو، حين وقف على هذه الحقيقة، فقال: ( لقد درست محمداً باعتباره رجلاً مدهشاً فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح)(1).

ويستمر الأمر على حالة، نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) يواجه أعداءه بالعفو والرحمة، وهم يواجهونه ويواجهون أتباعه بالقسوة، التي كانت أشد مظاهرها، بعد مرور سبع سنوات على دعوته، حين قرر أعداؤه في مكة محاصرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأتباعه، وكل من يقف معه، من أقاربه، في وادي يُعرف بشعب أبي طالب بغية عزلهم عن العالم الخارجي، ومقاطعتهم اقتصادياً، واجتماعياً .

لقد نجحوا في هذا واستمر العزل، والحصار، ثلاث سنوات، كانت جد قاسية، ومروعة، على النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن معه (1)، والنبي لم يُغير ولم يبدل في سلوكه، حينئذ بدأت تظهر ثمار الرحمة، التي وضع بذرتها في تلك البيئة، ورعاها حق رعايتها، بأقواله، وأفعاله.

فقد تحركت الرحمة، في قلوب عدد من كبار المعارضين له، وقرروا إنهاء الحصار، وإلغاء العزلة.

خرج نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) ومن معه منتصرين، حين تعاطف معهم كثير من الناس داخل مكة وخارجها، بسبب ما أصابهم، وشعر أعداؤه بالحرج والهزيمة، لأن قسوتهم هزمت أمام رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومسالمته، فكانت نتائج هذه القسوة عكسية عليهم.

أيها الحضور الأعزاء ..

أشعر أني أطلت عليكم، في هذه المحاضرة، واسمحوا لي أن اختمها، بالقول، لقد أوجد نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) بيئة تنمو فيها الرحمة، لتصبح ثقافة تنتشر بين الناس، ونجح في جعل الرحمة وسيلة للحفاظ على أصحابه، واستخدمها سلاحاً انتصر فيه على أعدائه في مواطن عدة، كما رأيتم، وهو مسلك لم يكن معروفاً لدى الناس من قبل.

في هذه الأثناء وقف أحد الحاضرين، فشكرها على ما أسماه طول النفس عندها، وقال لها، اسمحي لي أن أطرح تساؤلاً ، فأذنت له مباشرة، فقال: لاشك أننا أمام شخصية عظيمة، تحسن صناعة الصبر ونشر الرحمة، في بيئة لا تريدها ولكن ما قولك لو أن أحداً ممن استمع إلى هذه المحاضرة قال إن الذي رأيناه من نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) لم يكن رحمة ولا تسامحاً، ولكنه كان استسلاماً وتعاملاً مع واقع، لأنه لا يملك غير هذا التصرف، بسبب قلة أتباعه، وضعف إمكاناته.

فلم يكن أمامه إلاَّ أن يقابل الإساءة بالصبر، ويتجنب بشتى الوسائل الصدام مع خصومه في مكة، وهم الأكثر والأقوى.

اتجهت أنظار بعض الحضور إلى المتحدث، وكأنهم يؤيدونه فيما يقول، وينتظرون سماع رأي الدكتورة سارة التي استقبلت وجهة النظر هذه بصدر رحب، وقالت، للحاضرين، هل سمعتم ما قاله زميلكم، فقال بعضهم نعم سمعنا.

قالت: أعتقد أن محاضرة اليوم تضمنت بعض إجابات عن هذا التساؤل، لكن الوصول إلى الجواب يستدعي شيئاً من القراءة بين السطور، ويحتاج إلى تحليل للأحداث التي مرت بنا، والأحداث التي ستأتي، بعد أن تتبدل أحوال النبي (صلى الله عليه وسلم)، من الضعف إلى القوة، وبهذه المناسبة تذكرت الآن رأياً يتبناه كثير من العلماء المسلمين، مفاده أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في حقيقة الأمر لم يكن في يوم من الأيام ضعيفاً، ولا عاجزاً، أمام خصومه، والدليل على هذا أنه لو أراد لهلكوا جميعاً في ساعة واحدة.

فقد ذكرَ رواة الحديث حديثاً أجمعوا على صحته، جاء فيه أن الله تعالى أرسل ملكاً من السماء إلى نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) بعد أن اشتد تكذيب قومه له، وعرض عليه أن يهلكهم جميعاً، فأبى النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا بشدة(1) ، فلو كان تبدل الموقف منوطاً بالقوة، لتبدل موقف النبي (صلى الله عليه وسلم) حالاً بعد أن أمده الله تعالى بهذه القوة الخارقة.

لكن هذا لا ينفي ضعف المسلمين آنذاك فيما يظهر للناس، ولهذا أقترح أن نقسم هذه المهمة، فأنتم تبحثون فيما مرَّ بنا من أحداث، لعلها تحمل بعض إجابات عن هذا التساؤل المشروع،وأنا أتكفل باستحضار هذا الاستفسار في ضوء قراءات جديدة، في المحاضرات القادمة بغية الإجابة عنه.

سأفتح المجال في المحاضرة القادمة للاستماع إلى وجهة نظركم، شكراً لكم وإلى اللقاء.

 

--------------------------------------------------------------------------------

(1) الرسول : حياة محمد، ص 12، بودلي، مرجع سابق.

(2) لماذا يكرهونه، ص 65، د. باسم خفاجي، ط1، 1427هـ - 2006م

(1) لمزيد من المعلومات حول هذه البشارات، ينظر كتاب محمد في الكتاب المقدس، لمؤلفه عبد الأحد داود الأشوري، ترجمة فهمي شما، قطر، مؤسسة دار العلوم للطباعة، 1990م

(1) الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة، ص 62، محمد شريف الشيباني، ط1، 1988م، دار الحضارة، بيروت.

(1) دائرة المعارف، ج9، ص 198، المعلم البستاني، دار الفكر، بيروت.

(2) الإسلام والمسيحية، ص 59، د. أليسكي جورافيسكي، كتاب رقم 215 من سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر 1996م.

(1) تأثير الإسلام على أوروبا في القرون الوسطى، مونتغمري واط ، ص 301، موسكو 1976م.

(2) نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى، لساذرت نقلاً عن كتاب الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة، ص 27، محمد شريف الشيباني، ط1، 1988م، دار الحضارة، بيروت.

(1) لمزيد من المعلومات، تراجع الكتب التالية، على سبيل المثال، البداية والنهاية لابن كثير، زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية، حياة محمد لمحمد حسين هيكل.

(2) لمزيد من التوسع والاطلاع، يراجع كتاب السيرة النبوية، ص 27 فما بعدها، أبو الحسن الندوي ، دار التوزيع والنشر الإسلامي ، القاهرة ، ط1.

(1) المرأة بين الفقه والقانون ، ص 16، د. مصطفى السباعي.

(2) حياة محمد، وليم موير، نقلاً عن كتاب بطل الأبطال، ص 11، عبد الرحمن عزام.

(1) البداية والنهاية، ج3، ص 68، ابن كثير.

(2) انظر السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، ج1، ص 158، د. محمد أبو شهبة، وانظر السيرة النبوية، دروس وعبر، ج1/ ص 313 ، الصلابي.

(1) السيرة النبوية، ج1، ص 395، ابن هشام ، وانظر السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث على التوالي، ص 288 – 291، د. محمد علي الصلابي، ط1، دار الإيمان ، الإسكندرية.

(2) انظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصيلة، ص 186، د. مهدي رزق الله ، ط1، 1992/ ، مركز الملك فيصل للبحوث، الرياض.

(1) المرجع السابق ، ج، ص 477 بتصرف ، السيرة النبوية الصحيحة، ج1، ص 202 فما بعدها ـ بتصرف ، د. العمري.

(1) الرسول في عيون غربية منصفة، ص 70، الحسيني الحسيني معدي ، ط1 ، 2006م، دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة

(1) انظر السيرة النبوية، ج1، ص 430، ابن هشام ، وانظر السيرة النبوية، ص 347 وما بعدها، د. علي الصلابي، وانظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 194 فما بعدها ـ بتصرف.

(1) وأصل الحديث في مسلم، وهو طويل، جاء فيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أن رجع من الطائف حزيناً، بسبب ما أصابه من أهلها، أرسل الله جبريل مع ملك الجبال ، فقال الملك، لو شئت يا محمد أطبق عليهم الجبلين، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) ، بل أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبد الله وحده ، ولا يُشرك به شيئاً. وانظر صحيح مسلم ، الذي أورد هذا الحديث ، باب ما لقي النبي من أذى ، ح 4653، السيرة النبوية الصحيحة ، ج1، ص 186، د. أكرم ضياء العمري.