Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-       الأمثال النبوية:

أرأيت تلك الدواب والحشرات التي يستهويها ضوء النار وفيها حتفها، إنه حال كل من ينساق لشهوة عاقبتها النار، وهل يدرك عواقب الأمور إلا من تابع الرسول! قال (صلى الله عليه وسلم): (إنما مثلي ومثل الناس، كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها) متفق عليه. 

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
التغيير السياسي

 يذكر علماء السياسة والقانون الدستوري أن أُسُس قيام دولةٍ ما أربعة، وهي :  (الأرض، والشعب، والقانون، والسلطة)، فلا دولة بغير تلك الأسس.

ونحاول هنا أن نوضح خطوات بناء الدولة كما بناها محمد (صلى الله عليه وسلم)، فلم تكن هناك دولة إسلامية بالمعنى الواضح للدولة إلا في يثرب مكان الهجرة التي هاجر إليها محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه - رضي الله عنهم -، ولم تكن هناك دولة إسلامية في أي تجُّمع إسلامي قبلها.

مراحل دولة محمد (صلى الله عليه وسلم)
مرحلة ما قبل المدينة:
كان هدف محمد (صلى الله عليه وسلم) واضحًا؛ حيث كان يسعى لقيام دولة تحمل الدين، وتبلِّغه للناس، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) ما كان يضع هذا الهدف بعيدًا عن منهجه، فكان حريصًا أولاً على تبيان حقيقة أنه ما بُعِثَ لكي يكون رئيس دولة ولا مَلِكًا، ولو أراد ذلك لاغتنم الفرصة الذهبية السانحة حينما عرض عليه أهل مكة في أوائل دعوته أن يكون ملكًا عليهم على أن يترك الدعوة لدينه فرفض.

فلم يكن الملك من أولوياته، بل كانت القيادة وسيلة لتبليغ دعوة ربه جل وعلا، وإعادة الناس إلى عبادة ربهم.

فكان التجمع الأول في مكة، وفيها كان يتوافر ركنان، هما: الأرض والشعب، ويتخلف ركنان، وهما: السلطة والقانون، فلم يكن للمسلمين ولا لمحمد (صلى الله عليه وسلم) سلطة في مكة؛ إذ كانوا أفرادًا، والسلطة الحاكمة تعاديهم وتُنَكِّل بهم، وتُنْزِل بهم أشد الابتلاءات، ولم يكن لهم قانون متكامل، فلم يتنزل القرآن بالتشريعات الكاملة على محمد(صلى الله عليه وسلم) إلا بعد الهجرة، وبعد قيام الدولة، فكان معظم القرآن المكي يؤكد على العقيدة والخلق، ويثبت تلك المعاني بالنصائح القلبية، وقصص الأنبياء السابقين وما يدعو إلى العبودية والتوحيد ومكارم الأخلاق.

وقد صبر محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في مكة، لعل تحسُّنًا يطرأ على الواقع السياسي بها، ولكنه ما حدث، بل كان العداء يزداد شراسة وضراوة، واقترب خطر الإبادة له ولأصحابه، فكان لا مناص من البحث عن مكان لإقامة الدولة الإسلامية.

وسعى محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى اختبار عدد من الخيارات في خطوة بناء دولته:

فسافر إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام وإلى قبوله، لكنهم لم لم يستجيبوا لدعوته، بل كانوا أشد رفضًا لدعوته من أهل مكة.

واستثمر فرصة وفود قبائل العرب إلى مكة في موسم الحج، فصار يأتي إليهم ويعرض عليهم الإسلام والرحيل إليهم.

وفي العام الحادي عشر من البعثة جاء وفد من ستة رجال من عرب يثرب من قبيلتي الأوس والخزرج، وكان يسكن معهم في يثرب قبائل من اليهود، وسمعوا منهم ما كانوا يتداولونه من اقتراب ظهور نبي آخر الزمان، فلما رأوا صفاته آمنوا به، وخشوا أن يسبقهم اليهود إليه، ورجعوا إلى قومهم، وعادوا في السنة المقبلة في العام الثاني عشر من البعثة، وهم اثنا عشر رجلاً، وأسلموا بين يدي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن هنا بدأ محمد (صلى الله عليه وسلم) يفكر في يثرب بوصفها قاعدة انتشار وانطلاق للإسلام بعيدًا عن مكة.

وأرسل مع هذا الجمع رجلاً سفيرًا له لأهل يثرب، وهو مصعب بن عميرt يعلمهم الإسلام ، فكان أول سفير للرسول (صلى الله عليه وسلم) في الإسلام ، وعاد مصعب في السنة المقبلة ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان في موسم الحج، ورتب محمد(صلى الله عليه وسلم) معهم موعدًا للقائهم، وقابلهم بعد سلسلة من الترتيبات المحكمة؛ كي لا يشعر بهم أحد سواء كان من قومهم الذين جاؤوا معهم أو من أهل مكة.

وكان هذا الاجتماع هو المؤتمر التحضيري والتأسيسي للدولة الإسلامية الوليدة فكان لا بد أن يحفظ بعناية خاصة، ويحاط بسرية كاملة حتى على المسلمين من أهل مكة، فلم يعلم به أحد إلا من كان له عمل في تلك الليلة، فلم يعلم به إلا أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما- ، وكان من مهمتهما حراسة مكان الاجتماع كي لا يكشف مكانهم ولا اجتماعهم أحد.

وفي هذا الاجتماع تم الاتفاق على أن ينتقل محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من مكة إليهم في يثرب، على أن تكون يثرب وطنًا لهم وللدين.

وعلى أن يكون ولاؤهم الكامل للإسلام ولنبي الإسلام، وعلى أن تكون السلطة هناك لمحمد (صلى الله عليه وسلم) عند قدومه إليهم، وعلى أن يكون التشريع الذي يحكمهم هو ما أنزله الله في قرآنه، وما يبلغه رسوله (صلى الله عليه وسلم) لهم، وعلى أن يتحملوا نصيبهم من التعب والمشقة وعداوة العرب كلها، ولم يَعِدْهم (صلى الله عليه وسلم) في الاجتماع بأية مغانم في الدنيا، بل وعدهم بالأجر من الله سبحانه، فوافق القوم وأعطوه العهود والمواثيق.

ولعل في وجود المرأتين في هذا الاجتماع التاريخي البالغ الخطورة مَلمَحاً حَسَناً بأن النساء شقائق الرجال في هذا الدين وأن عليهم جميعاً تقع أعباء قيام الدولة الجديدة، وهو ما أكدته الأحداث بعدئذ.

وبعد أقل من شهر بدأ توافد المسلمين على يثرب، وبدأت الهجرات تتوالى، وكان آخرهم هجرةً محمدٌ (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه أبو بكر t بعد أن اطمأنَّ على هجرة أصحابه قبله.

مرحلة المدينة وتأسيس الدولة:
   منذ بداية تلك المرحلة صار محمد (صلى الله عليه وسلم) قائداً لهذه الدولة الناشئة، ويعمل على تدعيم أركانها؛ كي تثبت أمام كل المعوقات.

لقد كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يعلم أن تلك الدولة مستهدَفة من قوًى متعددة؛ فاستعد لتلك التهديدات كلها ببضع دعامات، واستطاع إرساء قواعد تلك الدولة الفتية، وبدأ بسلسلة من الإجراءات السياسية،منها:

1- بناء المسجد:
 لم يكن المسجد مجرد مكان لأداء الصلاة، بل كان للمسلمين بمنزلة البرلمان الذي يجمع أهل الحكمة والمشاورة، وإصدار القرارات المهمة.

2- تأسيس العقد الاجتماعي:
   يتمثل هذا الإجراء في عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكتابة وثيقة بهذا المضمون، وفيها حقوق للأطراف كافة وواجباتهم التي كانت تقوم على حق مهم وأصيل، وهو حق المساواة بين جميع أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، وكذلك معاهداته مع اليهود داخل المدينة وما حولها.

3- المعاهدات الخارجية لحماية الدولة:
وكانت مع بعض القبائل المتناثرة، وخاصة فيمن كان أهل المدينة يمرون عليهم في تجارتهم، فكان (صلى الله عليه وسلم) يتحين الفرصة في كل سفر خارجي أن يعقد معاهدات مع القبائل التي يمر عليها في طريقه، وبدأ ذلك منذ أول سفر له حتى آخر غزوة غزاها، وظل يوسع دائرة المعاهدات مع تلك القبائل.

4- تكوين الجيش الإسلامي:
عمل محمد (صلى الله عليه وسلم) على أن يحذر أصحابه من استهداف دولتهم الوليدة من الأطراف الخارجية، وخاصة تهديدات أهل مكة لهم، فشرع في بناء الجيش للدفاع عنهم وحفظ مكتسباتهم، فكان الجيش في تلك الدولة يشمل كل مَن له القدرة على حمل السلاح.

وجرى وضع كل أفراد الدولة تحت قوة الاحتياط، فكلما دهمهم عدو أو شعروا بتهديده تحوَّل الجميع إلى مقاتلين، وحملوا السلاح وخرجوا به، ولم يُستثنَ من ذلك إلا النساء وكبار السن والمرضى، وإن كانت النساء يخرجن مع الجيوش لأداء مهمات تصلح لهن، منها: التمريض، وسقاية الجيش، وإعداد الطعام وغيره.

5- التلاحم بين القائد وجنده:
لم يجعل محمد (صلى الله عليه وسلم) القيادة تُبعِده عن أصحابه وأمته، فكان (صلى الله عليه وسلم) يتواصل معهم، ويشرح لهم كل شيء بدقة وصراحة، حتى غدا كل منهم يحمل همّ هذا الدين، ويتحمل عاقبة كل قرار يتخذه القائد؛ لأنه كالقرار الذي يتخذونه جميعاً.

ولهذا لا نتعجب أن يكون ردّ الصحابة واحدًا في كل المواقف القتالية، فهذا سهل بن سعد t يحدثنا عما جرى في يوم خيبر يوم أن طلب محمد (صلى الله عليه وسلم) من علي بن أبي طالب t أن يقود الجيش لفتح خيبر، فسأله علي عن الغرض والغاية من القتال؛ فقال: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «انفذ على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه؛ فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم»([1]).

وكانت هذه الغاية من القتال فهمًا عامًّا وشاملاً حتى لمن جاء بعدهم من الأجيال التي تلتهم؛ فقد ذهب تابعي يسمى ربعيُّ بن عامر إلى رستم قائد الفرس؛ فسأله رستم قائلاً : ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنُخرِج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قَبِلَ منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه ([2]).

6- قيادة الدولة بالحب:
لم يقد محمد (صلى الله عليه وسلم) المسلمين بالعصا، فقد جمع في تمازج رائع بين مهمات النبوة والرسالة ومهمات الدولة والرئاسة فكان حازمًا في غير شدة تقسو على أتباعه، وبغير لين يطمع فيه أعداؤه، ولكنّ الصفة الأبرز فيه (صلى الله عليه وسلم) أنه استطاع أن يكسب قلوب أصحابه فأحبوه حبًّا كبيرًا يفوق الخيال، وكانوا على أتم الاستعداد بفدائه بأنفسهم وبأبنائهم، وبجميع ما يملكون، يقول له عمر بن الخطاب t ذات يوم ويُقسم على ذلك : «والله لأنت أحب إليّ من نفسي»([3]).

وبلغ حبهم له (صلى الله عليه وسلم) قدرًا عظيمًا، حتى اللحظة التي يكاد يفقد فيها الإنسان روحه يوصي من حوله بالدفاع عن محمد (صلى الله عليه وسلم)، فيروي يحيى بن سعيد، ويقول: «لما كان يوم أُحد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من يأتيني بخبر سعد بن الربيع الأنصاري؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! فذهب الرجل يطوف بين القتلى، فقال له سعد بن الربيع: ما شأنك؟ فقال له الرجل: بعثني إليك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأتيه بخبرك. قال: فاذهب إليه، فأقرئه مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وأني قد أُنفذت مقاتلي، وأخبر قومك أنه لا عذر لهم عند الله إن قُتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  وواحد منهم حي»([4]).

  في رواية أخرى يقول سعد: «على رسول الله السلام وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخْلَص إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفيكم شفر يطرف، وفاضت نفسه رحمه الله».

وعندما أُسِرَ أحد صحابته وهو زيد بن الدثنة t «قال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أنشدك بالله يا زيد! أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان متعجبًا - وذلك قبل إسلامه - : ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحُبّ أصحاب محمد محمدًا». والرد نفسه يرده خبيب بن عدي t وهو يُقَدَّم للقتل والصلب على خشبة، فإنهم «لما رفعوا خبيبًا على الخشبة نادوه يناشدونه: أتحب أن محمدًا مكانك؟ قال: لا؛ والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه! فضحكوا منه».([5])

ومن الصحابيات من فقدت زوجها وأخاها وأباها في قتالهم في صفوف محمد (صلى الله عليه وسلم)، ورغم تلك المصائب الشديدة إلا أنها لم تكن  تَسْأل إلا عنه (صلى الله عليه وسلم)، وتهون أي مصيبة من بعد سلامته؛ قال سعد بن أبي وقاص: مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأُحُد؛ فلما نُعُوا لها قالت: فما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ([6]) . وجلل هنا بمعني قليلة أو هينة.

وقيادة الناس تحتاج إلى سلطة وسلطان؛ إما سلطان القهر والخوف، أو سلطان الحب والتقدير، وقد اختار (صلى الله عليه وسلم) سلطان الحب والتقدير؛ لأن سلطان الخوف والقهر لا يصنع رجالاً ولا يبني حضارات أبدًا، وما إن يتخلص الناس من الخوف حتى تنهار تلك الحضارات الزائفة سريعًا، بل أسرع مما يتخيل معتنِقوها، والتاريخ خير شاهد، فكم انهارت حضارات ودول عظمى؛ لكونها بُنِيَت على سلطان القهر والخوف، وزالت بزوال مؤسسيها الذين أخضعوا الشعوب بالذل والقهر والاستعباد!.

7- مبدأ الشورى:
بالرغم من أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كان يحمل رسالة ربانية، وبالرغم من أن حكمته ورجاحة عقله البادية بكل وضوح في ثنايا حكمه لدولته؛ إلا أن التشريع الإسلامي أكَّد على مبدأ الشورى وبوصفه مبدأ أساسياً في حكم الدولة في كل زمان، وترك له أمورًا يقضيها بينه وبين المسلمين؛ لكي يُقِرّ في الناس مبدأ الشورى بوصفه قيمة إسلامية لا يمكن التنازل عنها.

ولكي تكون الشورى أصلاً لا يمكن لمن بعده (صلى الله عليه وسلم) أن يحيد عنه، ولا أن يجتنبه في قيادته للدولة من بعده؛ مارس (صلى الله عليه وسلم) الشورى وعلمها أصحابه، وقبل ذلك أعلت آيات القرآن من أهمية مبدأ الشورى بوصفها قيمة كبرى في حياة المسلمين، وأنزل الله سورة من سور القرآن سميت بالشورى، وفيها أنزل الله تلك الآيات التي تصف المؤمنين بأوصاف من ضمنها أنهم أهل شورى لا أهل قرارات منفردة؛ فقال :  (الشورى: 36-38).

يقول القرطبي في تفسيره للآيات: «مدح الله المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآراء كثير، ولم يكن يشاورهم في الأحكام؛ لأنها مُنَزَّلَة من عند الله»([7]).

ففي غزوة بدر اللقاء المصيري الأول بين المسلمين ومشركي مكة خرج محمد (صلى الله عليه وسلم) وقلة من أصحابه للقافلة، فوجدوا أمامهم جيشًا جرارًا، عدده يصل إلى ثلاثة أضعاف عددهم؛ فوقف واستشار الناس، فيقول أبو أيوب الأنصاري t : قال (صلى الله عليه وسلم) : «ما ترون في قتال القوم؟ فقام المقداد بن عمرو فقال: إذًا: لا نقول لك يا رسول الله! كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون. قال: فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم، فقال: «كيف ترون؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله! بلغنا أنهم بكذا وكذا. قال: ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟»، فقال عمر مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟»، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! إيانا تريد؟ فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لَنَسِيرَنَّ معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعل أن تكون خرجت لأمرٍ وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث إليك الله فامضِ؛ فَصَلْ حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعَادِ مَن شئت، وسَالِم مَن شئت، وخذ من أموالنا»([8]).

وفي غزوة أحد اللقاء القتالي الثاني استشار محمد (صلى الله عليه وسلم) أصحابه، وخيَّرهم بين أمرين؛ إما البقاء في المدينة والتحصن بها وانتظار العدو، أو الخروج لملاقاة العدو خارج حدود المدينة، وكان رأيه هو (صلى الله عليه وسلم) أن يبقى بالمدينة، ولكن أصحابه اختاروا الرأي الثاني فنزل عن رأيه لهم، وخرج بالجيش وانتهت المعركة بقتل سبعين من أصحابه،وينزل الأمر الإلهي بعدها في القرآن بعدم إلحاق السبب في الهزيمة بالشورى، ويأمره فيما بعد في كل المواقف بالتزام الشورى، وعدم التفريط فيها فقال :  (آل عمران: 159) .

وفي اللقاء الثالث حينما قرَّر أهل مكة أن يهجموا على المسلمين في المدينة، واستعانوا ببعض القبائل الأخرى، فيما سُمِّي بالأحزاب الذين فاق عددُهم عددَ المسلمين؛ استشار محمد (صلى الله عليه وسلم) أصحابه، فأشار عليه رجل مسلم أصله من بلاد فارس، وهو سلمان الفارسيt بضرب خندق حول المدينة نفسها.

وقَبِل محمد (صلى الله عليه وسلم) هذا الرأي من سلمان، وأمر بالخندق فَضُرِبَ حول المدينة([9]).

وفي الغزوة نفسها أراد محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يفرق هذا الجمع المحتشد حول المدينة بتحييد فريق جاء للمال، فكأنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يجعل الحرب بينه وبين قريش، خاصة أنها حرب عقيدة، أما من جاؤوا للمال فولاؤهم لمن يدفع أكثر، فأراد أن يعطيهم من المال ما يعودون به ويخلون بينه وبين قريش، فاستشار أصحابه فرفضوا بعد أن استوثقوا أن هذا ليس أمرًا إلهيًّا ([10]).

وكان (صلى الله عليه وسلم) يستشير أصحابه ويعمل بالرأي الصالح من الرجل والمرأة، كما ذكرنا في قصة الحديبية في ذكر ما قالته له زوجه أم سلمة  - رضي الله عنها-.

وقد ترك (صلى الله عليه وسلم) أمر خلافته مفتوحًا بين أصحابه ليعملوا مبدأ الشورى بينهم، واجتمع الناس قبل دفنه (صلى الله عليه وسلم)، واختاروا من بينهم خليفته، فاختاروا صاحبه ورفيقه وأول رجل في الإسلام بعده (صلى الله عليه وسلم)، وهو أبو بكر الصديق خليفة عليهم؛ فتمَّ التطبيق العملي بعد وفاته مباشرة، وتحقق المبدأ ورضي به المسلمون.

معالم الدولة كما أسسها محمد (صلى الله عليه وسلم):
جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى جزيرة العرب وهي تعاني من انقسام وتشرذم سياسي، فلم يكن العرب يعرفون اجتماع الكلمة، أو الوحدة السياسية.

كانت القبيلة هي المحور الذي يجتمعون حوله ويفترقون، ولم يكن هناك أسس تحكم هذه الصلة والعلاقة، ولا معايير تضبط عناصرها بما يرقى إلى مستوى الدولة ونظمها. ولما جاء محمد(صلى الله عليه وسلم) فأنشأ نظامًا سياسيًّا جديدًا، نظامًا متكاملاً يحدِّد أدوار كل من الحاكم والمحكوم، وينظم العلاقة بينهما، وينشئ كيانًا مستقرًّا متحدًا يتجاوز كيانات القبيلة دون أن يمحوها ويفتتها.

وفيما يلي أبرز معالم الدولة التي أسسها محمد(صلى الله عليه وسلم):