إن الله تعالى بفضله يختار من أهل الأرض أكرمهم، وأنقاهم وأشرفهم وأعدلهم وأرحمهم؛ كي يتحملوا رسالته بصورة تطبيقية أمام الناس، فيدعون إليها وينافحون عنها، ويصفون للناس كيفية استخدامها للقربى إلى الله سبحانه، وهم دومًا باذلون معطاؤون، وهم أكرم المصلحين وأنقاهم سريرة وأخلصهم قلبًا وأعلاهم قدرًا،
منهج واحد:
حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) دائمًا على إظهار أنه لم يكن منفصلاً عن إخوانه الأنبياء السابقين له، سواء كان ذلك على مستوى المنهج أو المصدر أو التعاليم، وآيات القرآن تدعوه إلى أن يعلن ذلك فتقول: ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﭼ (الأحقاف: 9)، أي: أنه غير مختلف نهائيًّا عن الأنبياء الذين سبقوه، وإنه مثلهم تمامًا رسول من عند ربه، جاء يبلِّغ الناس رسالة الله، ولم يأتِ بها من عند نفسه، وكذلك كان الأنبياء من قبلُ. فقال الله سبحانه و تعالى: (الشورى: 13)،، وهذه الحقيقة أعلنتها آيات القرآن دائمًا، وبلَّغها محمد (صلى الله عليه وسلم) للناس كاملة من غير زيادة ولا نقصان.وقد اجتهد محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يُعرِّف أمته أن أساس دعوته إنما هو تمامًا أساس دعوة الرسل والأنبياء من قبله، وهو توحيد الله سبحانه واجتناب الشرك، وإذا به يقرأ آيات القرآن متكاثرة عن دعوة الأنبياء إلى التوحيد، وكيف أنها كانت محور دعوتهم وبناءها الأصيل، فيقول القرآن عن نوح - عليه السلام -: (الأعراف: 59) ، ويقول عن هود: (الأعراف: 56)، ويكررها عن صالح - عليه السلام-: (الأعراف: 73)، ، وشُعيب- عليه السلام- : (الأعراف: 85).بل إن مبعث الرسل جميعًا إنما كان لإقرار الحقيقة نفسها، وتحقيق ذات الغاية فقال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (الأنبياء: 25). وأمر الله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أن يقتدي بالرسل الذين سبقوه، وعرَّفه أن ما يتعرض له من الصدّ والجحود والنكران والأذى قد تعرض لمثله إخوانه الأنبياء من قبله فيطالبه بالصبر كما صبروا، قال تعالى : (الأحقاف:35).وحينم
إذن فالمنهج واحد، ومصدر التلقي هو الله سبحانه، لا أحد يستطيع أن يحيد عن ذلك، فالحق والباطل في صراع أزلي أبدي منذ خلق آدم إلى يوم القيامة، وما الأنبياء إلا حلقات في هذا الصراع الطويل، وما محمد إلا واحد منهم جاء ليصارع الباطل مستلهمًا سِيَر الأنبياء الذين سبقوه عليهم السلام.وأمر الله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أن يقتدي بالأنبياء عامة، وأن يقتدي بنبي الله إبراهيم خاصة، فجاء الأمر لأمة الإسلام بالاقتداء بنبي الله إبراهيم، وورد ذكره في القرآن في اثنين وستين موضعًا: (الممتحنة: 4) . وإن إبراهيم هو الذي سمى هذه الأمة باسمها فقال الله: (الحج:78). وشعائر الإسلام مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهذا النبي؛ فالحج الشعيرة الكبرى للمسلمين كلها تذكير بسعيه وطوافه، وبنائه للكعبة، وذبحه لله، ولا عجب أيضًا أن يُطالب المسلم بتذكُّر إبراهيم كل يوم في صلاته فيقول في آخرها: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»، فهي إذن علاقة مباشرة بين محمد (صلى الله عليه وسلم) وأبيه إبراهيم عليه السلام فقد كان محمد استجابة الله لدعوة إبراهيم في مكة حين نظر إليها، وقال كما حكاه القرآن الكريم: (البقرة: 129). ويقول في ذلك: «أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت - حين وضعتني - وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام»([2]). ويقول محمد (صلى الله عليه وسلم) : «إن دين الله الحنيفية السمحة» ([3]). وهي ديانة إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى: (آل عمران: ٩٥)
معصومون:
تختلف طبيعة تعامل الأنبياء عن تعاملات غيرهم من البشر، فإذا أراد البشر أن يعلو ذكرهم طعنوا -غالباً- فيمن سبقوهم؛ حتى يثبتوا أنهم متميزون عنهم، ولكن رسل الله جاؤوا مكملين لبعضهم، إخوة متحابين، ولهذا كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يعلِّم أتباعه احترام كل الأنبياء وإجلالهم، ولم يسمح إطلاقًا بأي تجاوز في هذا الأمر.وكم رأينا من أصحاب الديانات من غير المسلمين يتحدثون عن الأنبياء بأسلوب لا يتناسب مع كونهم أنبياء الله، ونحن لا نتعجب؛ فإن ما جعلهم يقولون على الله غير الحق ويصفونه بأبشع الصفات لا يستغرب في حقهم ما قالوا عن الأنبياء، بل إن كل نبي من الأنبياء ألصقوا به الاتهامات البشعة وصوروا له صورة مهينة ،مثل: آدم ويعقوب وموسى وداود وسليمان ويوسف ولوط عليهم السلام، وجاء القرآن الكريم مدافعًا عن الأنبياء مبرئًا لهم من التُّهَم التي اتهموا بها؛ لأنهم معصومون من مثل ما اتهموا به من الأخطاء والذنوب.ولسنا هنا في مجال مقارنة بين ما قاله الناس عن الأنبياء، وبين ما قرره القرآن الكريم وردَّده محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلمه لأتباعه، ولكننا أردنا أن نبين باختصار كيف كرمت هذه الرسالة هؤلاء الأنبياء، ودافعت عنهم وكيف وقَّرهم محمد وكرَّمهم ورفع شأنهم.فقد ذكر القرآن الكريم معصية آدم عليه السلام ووضعها في حجمها تمامًا،ثم برَّأه وتاب عليه فقال تعالى: (البقرة: 35)، ولكن آدم عليه السلام نسي وأكل من الشجرة، فقال تعالى: (طه: 115) ، وعلم أنه أخطأ فندم وتاب واستغفر قال تعالى : (الأعراف: 23)، وتاب الله عليهما وأُنزلا إلى الأرض ليبدأ الخلافة في الأرض قال تعالى:ﭼ (طه: 123).وكذلك برَّأ القرآن يوسف - عليه السلام - قال تعالى: (يوسف: 51)، (يوسف: 24).وبرَّأ موسى - عليه السلام - قال تعالى: (الأحزاب: 69).وقال عن داود - عليه السلام - قال تعالى: (ص: 17).
وبرأ الله السيدة البتول مريم؛ إذ اتهموها في عرضها وقذفوها بأقذر التهم التي توجه للمرأة العفيفة، وهي تحمل الطاهر الكريم عيسى عليه السلام، وافتروا عليها الافتراءات، فأنزل الله سورة باسمها في القرآن، ولم يُسَمّ سورة باسم امرأة غيرها، ولم ينسب في القرآن أحد باسمه واسم آبائه إلا مريم ابنة عمران وعيسى ابن مريم تمييزًا وتشريفًا لهما، فقال الله في آياته: (آل عمران: 42 -43)،
إكمال لا استبدال:
حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يستقر في قلوب صحابته وأذهانهم أنه ما بعث إلا ليُكمل ما بدأه إخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، وأنه لم يأت بديلاً لهم ولا مُحَقِّرًا من شأنهم، ولا مقللاً من مجهودهم وأثرهم، وأنه جاء يكمل هذا البناء العظيم.وقد بيَّن (صلى الله عليه وسلم) مكانه فيهم أنه إنما هو لبنة مكمِّلة لهم، فهم بناء شامخ كبير رائع وهو بمنزلة لبنة في هذا الجدار، ولهذا قال (صلى الله عليه وسلم): «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيتا فأحسنه وأجمله وأكمله، إلا موضع لبنة في زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة فيتم بنيانك. فقال محمد (صلى الله عليه وسلم): فكنت أنا اللبنة».([5])إنها لبنة مكملة ومتممة، فبها يكتمل البناء، بناء العقيدة وبناء التشريع الرباني المراد للبشر من ربهم سبحانه وتعالى، الذي ابتدأه لهم منذ بداية الخليقة، وأراد أن يختمه بمحمد (صلى الله عليه وسلم).ومحمد (صلى الله عليه وسلم) هنا يؤكد على أن جميع معاني الخير والإيمان والنفع والإصلاح التي جاء بها المرسلون من قبله ملتقية جميعًا عند تلك اللبنة، فرسالته لم تدع خيرًا سبقه إليه نبي إلا دعت إليه، ولم تدع شرًّا حذَّر منه نبي إلا حذرت منه ونهت عنه.
------------------------------
([1]) أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365).
([2])الألباني،مشك
([3]) الألباني،السلسل
([4])أخرجه البخاري (4603)، ومسلم (2377).
([5])أخرجه مسلم (2286).