Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

 -         (بعثت بالحنيفية السمحة) تتجلى في رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) كل معاني السماحة والتيسير، فقد وضع الله عن أمته الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ويسر لهم الدين ورفع عنهم الحرج، وزاد في أجور أعمالهم الصالحة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
Rahiyma

قال الأب ستيفانو: ثم ماذا علَّم محمد الناسَ في مدرسته من أبواب الرحمة؟

قلت: لقد علّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناس في مدرسته الرحمةَ عند إقامة الحدود.

قال: وما الحدود؟

قلت: الحدود هي العقوبات المحددة التي نصت الشريعة الإسلامية على توقيعها على أصحاب الجرائم التي تضرُّ بالمجتمع الإسلامي مثل الزنى والسرقة وشرب الخمر..

قال: هذا أمر يمكن أن يأتيه أي صاحب سلطة فيعفو عن المجرمين؛ إما رحمة بهم أو لغاية في نفسه.

قلت: على رِسْلِك.. إنَّ صاحب السلطة قد يعفو عن مجرم راغب بالعفو، لكنه لا يعفو عن مجرم راغب بالعقوبة.

قال باستغراب: وهل هناك مجرم يرغب بالعقوبة؟!

قلت: أجل، هكذا هم تلاميذ مدرسة محمد..

قال: أفصِح وأوضِح.

قلت: إني محدثك فأصغِ إلي:

روى الصحابي بريدة قال: «جاء ماعز بن مالك إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله طهِّرني. فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتُب إليه. قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهِّرني. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ويحك ارجع فاستغفر الله وتُب إليه. قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهِّرني. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل ذلك.. حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله: فِيمَ أُطَهِّرُك؟ فقال: من الزنى. فسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أبه جنون؟ فأُخبر أنه ليس بمجنون. فقال: أَشَرِب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. قال فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أَزنيتَ؟ فقال: نعم. فأمر به فرُجم.

فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول: ما توبةٌ أفضل من توبة ماعز؛ أنه جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فوضع يده في يده ثم قال: اقتلني بالحجارة.

قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهم جلوس، فسلَّم ثم جلس فقال: استغفروا لماعز بن مالك. قال فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. قال فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لقد تاب توبة لو قُسمت بين أمَّةٍ لوسعتهم.

قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني. فقال: ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه. فقالت: أراك تريد أن تردَّني كما رددتَ ماعز بن مالك. قال: وما ذاك؟ قالت إنها حبلى من الزنى. فقال: آنتِ؟ قالت: نعم. فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك.

قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال فأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: لقد وضعتْ الغامدية. فقال: إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه. فقام رجل من الأنصار فقال: إليَّ رضاعه يا نبي الله. قال فرجمها»[1].

وأردفت: كيف ترى أيها الأب ستيفانو، أكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رحيماً عند إقامة الحد؟

قال: إن ما حدثتني به يؤكد لي صحة قولك السالف: إن محمداً كان أرحم بالمسلمين منهم بأنفسهم. لكن هل تكرر مثل هذا؟

قلت: أجل، فقد روى الصحابي أبو هريرة قال: «أتى رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله إني زنيتُ. فأعرض عنه النبي (صلى الله عليه وسلم). فتنحَّى لِشِق وجهه الذي أعرض قِبَلَه فقال: يا رسول الله إني زنيت. فأعرض عنه. فجاء لشِقِّ وجه النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات.. دعاه النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: أبِكَ جنون؟ قال: لا يا رسول الله. فقال: أَحْصَنْتَ - أي تزوجت – قال: نعم يا رسول الله. فقال: اذهبوا به فارجموه»[2].

وأردفت: أيكفي هذا أم أزيدك بما هو أبلغ؟

قال: وهل هناك ما هو أبلغ؟

قلت: أجل، فقد روى الصحابي أنس بن مالك قال: «كنت عند النبي (صلى الله عليه وسلم) فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبتُ حداً فأقمه علي. قال ولم يسأله عنه. قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي (صلى الله عليه وسلم) فلما قضى النبي (صلى الله عليه وسلم) الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أَصبتُ حداً فأقم فيَّ كتاب الله. قال: أليس قد صليتَ معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك»[3].

وأردفت: أرأيت كيف نجَّا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الرجلَ من العقوبة بعدم سؤاله عن ذنبه الذي جاء ليعترف به، رحمةً به، لمَّا تأكد له صدق ندمه على ما فعل، ولو سأله عن ذنبه، وأَقَرَّ الرجل، لنالته العقوبة وأقيمَ عليه الحدّ.

وهكذا كانت سيرته (صلى الله عليه وسلم) عند إقامة الحدود في غير هذا من الجرائم.

قال الأب ستيفانو: إن مما يثير إعجابي برحمة محمد، كما تحدثني عنها.. أنها لم تكن تظهر مرَّةً وتختفي أخرى، بل هي دائماً ظاهرة متكررة لا تنتهي عند حد. ويظهر لي أن من يدرس سيرة محمد الصحيحة دراسة جادة، يستطيع أن يتناول منها أمثلة الرحمة كيف شاء.

قلت: لأن رحمته (صلى الله عليه وسلم) لم تكن متكلَّفة أو مصطنَعة، إنما كانت رحمةً متأصِّلة في نفسه.

وأردفت: وهكذا كانت سيرته (صلى الله عليه وسلم) عند إقامة الحدود في جميع الجرائم الحديَّة الأخرى.. يحاول أن يدرأ توقيع الحد ما استطاع.. على أن يبقى ضمن دائرة ما شرعه الله سبحانه.. بل حتى الجرائم غير الحديَّة كان (صلى الله عليه وسلم) لا تفارقه الرحمة في توقيع عقوبتها على مستحقيها.

قال: وما الجرائم غير الحديَّة؟

قلت: تلك التي لم تنص الشريعة الإسلامية على عقوبة محددة لها، إنما تُرك أمرها إلى الحاكم يقدِّرها بحسب ما يتبدَّى له من الظروف والملابسات المحيطة بالجريمة[4].

قال: ألا بيَّنت لي؟

قلت: كان حاطب بن أبي بلتعة حليفاً لقريش، مقيماً بينهم في مكة، فلما بُعثَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسلم حاطب وهاجر إلى المدينة وترك أهله في مكة. فلما عزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، أجرى تجهيزات الجيش في المدينة بسرِّية تامة حتى يفاجئ قريشاً. وقبل تحرُّك الجيش من المدينة، حدث ما رواه علي بن أبي طالب قال: «بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضةَ خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادَى بنا خيلُنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجِنَّ الكتاب أو لنُلقِيَنَّ الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها - أي من ضفائرها – فأتينا به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإذا به من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - وفي رواية يخبرهم بمسير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم – فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا حاطب ما هذا؟! قال: يا رسول الله لا تعجَل علَي، إني كنت امرأً مُلصقاً في قريش، يقول كنت حليفاً ولم أكن من أنفُسها، وكان مَن معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنه قد صدقكم - وفي رواية: صَدَق فلا تقولوا له إلا خيراً - فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلَّ الله اطَّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم - وفي رواية: فقد وجبت لكم الجنة. قال فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم -»[5].

فقال الأب ستيفانو معلقاً على الحديث: لو جرى هذا مع غير محمد لأُعلن عن حاطب أنه جاسوس يتعامل مع العدو، ولاتُّهم بالخيانة العظمى.. ولأُعدِم من فوره.

قلت: أما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما كان ليقتل أصحابه، بل كان يعالج أخطاءهم برحمته وحكمته فيكونون بعد الخطأ أصلب إيماناً وأشد حبّاً لله ورسوله.

* * *

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] صحيح مسلم الحديث رقم/3207 وانظر في مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني الحديث رقم/3565 ففيه زيادة.

[2] صحيح البخاري الحديث رقم/6325 - صحيح مسلم الحديث رقم/3202.

[3] صحيح البخاري الحديث رقم/6323.

[4] انظر (السياسة الشرعية) لابن تيمية ط. دار المعرفة ص95.

[5] صحيح البخاري الحديث رقم/3939 - والحديث رقم/5789.