Rahiyma

وأردف قائلاً: ثم ماذا علَّم محمد الناسَ في مدرسته غير هذا من أبواب الرحمة؟.

قلت: لقد علَّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناسَ في مدرسته الرحمةَ بالأقارب، وسمّى القرابة (الرَّحِم) وسمّى الرحمة بالأقارب (صِلة الرحم) ومهما حدثتُك عن صلة الرحم كما علَّمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مدرسته، فلن أستطيع أن أوفيها حقها، لهذا سوف أحدثك بما يحضرني. وأول ما يحضرني حديثه عن خَلْق الرحم (القرابة):

قال (صلى الله عليه وسلم): «إن الله خلق الخَلْق، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة! قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب. قال: فهوَ لكِ»[1].

ثم كأن الله سبحانه بعدما خلق الرَّحم وسمَّاها، انتصر لها وجعلها في حمايته، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «قال الله: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقتُ الرّحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلْته، ومن قطعها بَتتُّه»[2].

وقال (صلى الله عليه وسلم): «الرّحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله»[3].

* * *

وأردفتُ: ولهذا كانت الرحمة بالأقارب هي الأحب إلى الله سبحانه - بعد الإيمان به - من بين جميع الأعمال المقرِّبة إليه. وكانت القسوة على الأقارب، هي الأبغض إلى الله سبحانه - بعد الإشراك به – من بين جميع الأعمال المبعِدة عنه. فقد حدّث رجل من قبيلة خثعم قال: «أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في نفر من أصحابه، فقلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: نعم.

قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الإيمان بالله.

قلت: يا رسول الله،ثم مَه؟ قال: ثم صلة الرحم.

قلت: يا رسول الله،ثم مَه؟ قال: ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: الإشراك بالله.

قلت: يا رسول الله، ثم مَه؟ قال: ثم قطيعة الرحم.

قلت: يا رسول الله، ثم مَه؟ قال: ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف»[4].

* * *

 

وأردفت: ثم إنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعلِّم الناس أن ثواب الآخرة ودخول الجنة منوط بصلة الرحم، أي (برحمة الأقارب)، فقد قال: «لا يدخل الجنة قاطع رحم»[5]، أي من يقسو على أقاربه.

وروي أنه قال له رجل: أخبرني بعمل يدخلني الجنة. قال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»[6]. فمن أخلَّ بواحد من هذه الأربعة لم يضمن دخول الجنة.

ثم إنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعلِّم الناس أن عقوبة قاطع الرحم تُعَجَّل له في الدنيا قبل الآخرة، فقد قال: «ما من ذنْبٍ أجدر أن يُعجِّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة - من العقوبة - من البغي، وقطيعة الرحم»[7].

ويعلِّمهم، أنه كما تُعَجَّل العقوبة في الدنيا لمن يقسو على أقاربه، فكذلك يُعجَّل الثواب في الدنيا لمن يرحم أقاربه. قال: « ليس شيء أُطيعَ اللهُ فيه، أعجل ثواباً من صلة الرّحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم »[8].

وكان (صلى الله عليه وسلم) يعطي الناس مثلاً من الثواب المعجّل في الدنيا لمن يرحم الأقارب، فيقول: «صلة الرحم، وحسن الخُلُق، وحُسن الجوار، يزِدنَ في الأعمار ويَعمُرنَ الديار»[9].

* * *

 

وأردفتُ: ثم إنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعلِّم الناس أن من أراد أن يفوز بضِعف ثواب ما يتصدق به، أن يقصد بصدقته الأقارب أولاً من ذوي الحاجة. فقد قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة»[10].

وحدّثتْ زينب، زوجةُ الصحابي عبد الله بن مسعود - وكان فقيراً - قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «تصدَّقنَ يا معشر النساء ولو من حُليِّكُن - في صحيح البخاري: وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها - قالت: فرجعتُ إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد - أي فقير - وإن رسول الله قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يُجزىء عني وإلا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال لي عبد الله: بل ائتيه أنتِ. قالت: فانطلقتُ، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاجتي حاجتها.قالت: وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أُلقيت عليه المهابة. قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائتِ رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزىء الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجريهما؟ ولا تخبره من نحن.

قالت: فدخل بلال على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،فسأله. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة»[11].

وروى أنس بن مالك قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل. وكان أحب أمواله إليه (بيرحاء) - هي قطعة أرض زراعية - وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب. قال أنس: فلما أُنـزلت هذه الآية: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[12] قام أبو طلحة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وإن أحبّ أموالي إلي (بيرحاء) وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): بَخٍ،ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه»[13].

وهنا بادر الأب ستيفانو قائلاً بإعجاب: كم هو جميل تعليم محمد! وكم هو جميلٌ فعلُ أبي طلحة!.

* * *

قلت: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكتفي بتعليم الناس فضل الصدقة على الأقارب، بل كان يعلِّمهم أن الإنفاق حتى على الأهل الأَدْنَين الذين تجب على المسلم إعالتُهم، له فضلُ وثوابُ الصدقة أيضاً. فقد قال (صلى الله عليه وسلم): «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها - أي يقصد بها الثواب من الله - كانت له صدقة»[14].

وسألتْه مرةً زوجته السيدة أم سلمة - وكانت لها أبناء من زوجها السابق المتوفى - فقالت: يا رسول الله، هل لي أجر من بني أبي سلمة، أُنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما هم بنيَّ؟ فقال: «نعم، لك أجر ما أنفقتِ عليهم»[15].

* * *

وأردفتُ: أمَّا إن حلَّ الجفاء مكان المودة بين الأقارب، وحلّت القطيعة مكان التواصل، فهنا امتحان رحمة المسلم بأقربائه، وهنا يظهر فضل واصل الرحم على قاطعها، وهنا يُخبأ الجزاء الأوفى لواصل الرحم. قال (صلى الله عليه وسلم): «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها»[16].

ويتضح معنى هذا الحديث جلياً بالحديث التالي: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني - أي أرحمهم ويقسون علي - وأُحسن إليهم ويسيؤون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنما تُسفُّهم المَل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك»[17].

وهكذا علَّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناس أن الله سبحانه دائماً مع الإنسان الرحيم بأقاربه المجافين له، وأن من الخير لهذا الإنسان إن وجد أقرباءه هؤلاء بحاجة إلى الصدقة، أن ينفق صدقته عليهم، رحمة بهم وتأليفاً لهم. قال (صلى الله عليه وسلم): «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح - أي القريب المجافي -»[18].

* * *

وأردفت: ولأجل هذه المرتبة الفضلى للرحمة بالأقارب، كان (صلى الله عليه وسلم) يحث المسلمين جميعاً عليها ويقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيصلْ رحمه»[19].

ويقول: «من أحبّ - وفي رواية من سرّه - أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فلْيصلْ رحمه»[20].

ويقول: «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر»[21].

* * *

قال الأب ستيفانو: وهل لهذه الأحاديث النبوية ما تتوافق معه من الآيات القرآنية؟

قلت: أجل، تقول الآية القرآنية التي تحذِّر من قطع الأرحام والقسوة على الأقارب: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾[22]. وتقول الآية القرآنية التي تحذر من قطع الأرحام والقسوة على الأقارب وتقرنها بالفساد في الأرض: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ{22} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾[23]، وتقول الآية القرآنية: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى﴾[24].

* * *

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] صحيح البخاري الحديث رقم /5528- صحيح مسلم الحديث رقم /4634.

[2] السلسلة الصحيحة للألباني - الحديث رقم /520.

[3] صحيح مسلم الحديث رقم /4635.

[4] صحيح الترغيب والترهيب للألباني - الحديث رقم /2522 وقال عنه: صحيح.

[5] صحيح مسلم الحديث رقم /4637.

[6] صحيح البخاري الحديث رقم /1309.

[7] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/918.

[8] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم/978.

[9] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /519.

[10] مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني الحديث رقم /1939 وقال عنه: صحيح.

[11] صحيح مسلم الحديث رقم /1667 - صحيح البخاري الحديث رقم /1373.

[12] آل عمران /92.

[13] صحيح البخاري الحديث رقم /1368 - صحيح مسلم الحديث رقم /1664.

[14] صحيح مسلم الحديث رقم /1669.

[15] صحيح مسلم الحديث رقم /1668 صحيح البخاري الحديث رقم /1374.

[16] صحيح البخاري الحديث رقم /5532.

[17] صحيح مسلم الحديث رقم /4640.

[18] إرواء الغليل للألباني الحديث رقم /892 وقال عنه: صحيح.

[19] صحيح البخاري الحديث رقم /5673 وتمامه: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت».

[20] صحيح البخاري الحديث رقم /5527 صحيح مسلم الحديث رقم /4638.

[21] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /276.

[22] النساء /1.

[23] محمد /22-23.

[24] النساء /36.

تابعونا على المواقع التالية:

Find موقع نبي الرحمة on TwitterFind موقع نبي الرحمة on FacebookFind موقع نبي الرحمة on YouTubeموقع نبي الرحمة RSS feed

البحث

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

البحث

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          أجر خمسين

تمسك بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تدخل في قوله:إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجرُ خمسين رجلا يعملون مثل عملكم قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال:بل أجر خمسين منكم رواه الترمذي وحسنه

فضل المدينة وسكناها

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

برامج إذاعية