Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          تفسيره القران:

قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد: الذين بايعوا تحتها) - يعني أهل بيعة الرضوان - قالت حفصة: أليس قد قال الله: (وإن منكم إلا واردها)؟ فقال: قد قال الله عز وجل: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا). رواه مسلم. فدل على أن المراد بالورود: الصراط.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
al_mawsuaa_maysira.jpg

إن أوْلى الناس بالمرء هم ذوو قرابته، وهم أحق الناس به، وبخير ما عنده، فهم بيئته الأولى التي نشأ بينها، وحمل اسمها؛ لذا فإننا نرى أن أول حق من الحقوق طُولِب به محمد (صلى الله عليه وسلم) في آيات القرآن هو حق ذوي القربى؛ إذ أنزل عليه قوله تعالى: (الشعراء: 214)، ويومها وقف محمد (صلى الله عليه وسلم) على الصفا وقام بحقهم عليه في النصح، وبإنذارهم من مخالفة أمر الله سبحانه.الأقارب دوائر تتسع تدريجيًّا، فالدائرة الأولى هي الوالدان، ثم الزوجة والأبناء فهم أصحاب الحق الثاني، ثم تتسع الدائرة أكثر لتشمل ذوي الرحم الأقربين، ثم تتسع فتشمل أبناء القبيلة أو العشيرة أو العائلة على اختلاف مسمياتها، ولكلٍّ حق على الإنسان يجب الوفاء به، ولنحاول أن نلقي نظرة قريبة على منهج محمد (صلى الله عليه وسلم) في التعامل مع تلك الدوائر القرابية والعائلية.

الوالدان:

لقد جعلت رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) - الإسلام - من بر الوالدين عبادةً من أعظم العبادات، ورفع مقام البار بوالديه إلى أرفع الدرجات، فآيات القرآن الكريم تؤكد ذلك في مواضع كثيرة جدًّا؛ منها قوله تعالى:     (لإسراء: 23). ومنها قوله تعالى: (الأحقاف: 15).ويروي صاحبه عبد الله بن مسعود أن رجلاً جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) ليسأله أي العمل أحب إلى الله؟ فقال له محمد (صلى الله عليه وسلم): «الصلاة على وقتها، فقال الرجل: ثم أيّ ؟ قال: بر الوالدين... الحديث»([1]).ويقول محمد (صلى الله عليه وسلم) في موضع آخر وحديث آخر مبينًا قيمة رضا الوالد: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد»([2]).بل ويحذِّر محمد (صلى الله عليه وسلم) كل من يدرك والديه في كبرهما ولم يبرهما ويحسن إليهما فيقول في حديثه: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه - يعني: خاب وخسر -، قيل: من يا رسول الله ؟! قال: مَن أدرك أبويه عنده الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة»([3]).ويَعدُّ معصية الوالدين وقطيعة علاقتهما من أعظم كبائر الذنوب فيروي صاحبه أبو بكر t أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت»([4]). وفي سياق تخويفه وترهيبه الناس من معصية الوالدين، وإهمال حقهما يقول محمد (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه. وثلاثة  لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرَّجِلَة من النساء»([5]). وجاءه رجل فقال له: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا؛ ونصب أصبعه، وقال: ما لم يعق»، يعني: أبويه.([6])

وأتاه رجل يسأله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فيقول: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك»، أي: من أحق الناس عليك وأعظمهم حقًّا عندك أبواك وأمك مقدَّمة على أبيك ثلاثًا.ولما سُئل (صلى الله عليه وسلم) مرة أخرى السؤال نفسه؛ أجاب الإجابة نفسها: أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك، ثم أدناك أدناك»([7]).أي: إنك تعطي الحقوق لأقاربك بعد حقوق والديك، وتخص الأقرب منهم فالأقرب بمزيد من الصلة والبر. وسبق أن ذكرنا أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لم يدرك والديه؛ فقد ولد يتيم الأب، ثم ماتت أمّه وهو ابن ست سنين، فلم يدرك أبويه ليتمكن من برهما، ولكن مع هذا لم ينقطع بره لمن رباه، فقد كانت كل امرأة أسهمت في تربيته يعدّها أمًّا له، فيعاملها معاملة الأم، ويذكرها بالبر والهدية، والذكر الحسن، يروي علي بن أبي طالب فيقول: «أُهدي إلى رسول الله ثوب حرير، فأعطاها عليًّا، فقال له: «قسمه خُمُرًا بين الفواطم».([8])يعني: جمع فاطمة وهن ثلاث: فاطمة بنت أسد زوجة عمه أبي طالب، وهي التي تولت تربيته بعد أمه، وحضنته وهو في الثامنة من عمره؛ فكانت له بمثابة الأم، والثانية: فاطمة بنت محمد ابنته، والثالثة: فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب عمه المحبب إليه، فهو يذكر من ربَّته سواء بسواء كذكره ابنته.وبينما كان صاحبه عبد الله بن عمر يسير في الطريق إذ يلقى رجلاً فقيرًا فيُكثر من عطائه بصورة كبيرة؛ حتى إنه أعطاه دابته التي كان يركب عليها، وعمامته التي كان يلبسها، فتعجب الناس ذلك وقالوا: إنما كان يكفيه بعض دراهم، فيقول لهم: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إن أبر البر: صلةُ الرجل أهل وُدّ أبيه بعد أن يولي»، وإن أباه كان صديقًا لعمر ([9]). إنه قد تعلم في مدرسة محمد الرسالية أن البر للوالدين لا ينقطع حتى ولو بالموت.

فقدان الولد:

كان لمحمد (صلى الله عليه وسلم) سبعة من الولد؛ أربع من الإناث، وثلاثة من البنين، وقد مات جميع أبنائه الذكور صغارًا وبقيت بناته، ومن يعرف المجتمع العربي وخاصة في الفترة التي بُعث فيها محمد (صلى الله عليه وسلم) يدرك تمامًا مقدار هذا الألم على نفسية الرجل العربي بعد فقده ثلاثة من أبنائه الذكور، ولكن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كانت قِيَمه مختلفة، ومبادئه مختلفة، ومعاييره للحكم على الأشياء مختلفة، فلا فرق عنده بين الصبي والفتاة، فكلاهما رزق من الله، وهبة يهبها الله للإنسان، وعندما مات الذكور حزن عليهم حزن الفراق لا حزن الاعتراض على حكم الله، يروي خادمه أنس موقف موت ابنه إبراهيم وهو لا يزال صغيرًا فيقول: «فدخلنا وابنه إبراهيم تجود نفسه – يموت – فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلنا: وأنت يا رسول الله؟! فقال: إن العين تدمع وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»([10]).ولا مات ابن بنته أرسل إليها يقول: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر ولتحتسب»([11]).فالميع في رؤيته ملك لله، وله أن يحكم في ملكه كيفما شاء ووقتما يشاء، وليس لنا إلا التسليم والرضا بقضاء الله، كما شاء الله أن يموت باقي أولاده في حياته، ولم يبق غير ابنته فاطمة على قيد الحياة لحظة حياته، وماتت بعده بسته أشهر. وعاش محمد (صلى الله عليه وسلم) أباً لأربع بنات وقد زوَّجهن جميعًا وأنجبن وصار جدًّا لأحفاد.

الأب الرحيم:

مثَل محمد (صلى الله عليه وسلم) لأولاده دور الأب الرحيم العطوف بامتياز، وحرص دومًا على أن يهتم بشؤونهم برغم مشاغله المتكاثرة، كما غمرهم بعاطفته الجياشة في كل المواقف؛ وهو ما جعلهم يرتبطون به ارتباطًا نفسيًّا وقلبيًّا وثيقًا. يقول خادمه وصاحبه أنس بن مالك: «ما رأيت أحدًا أرحم بالعيال من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كان إبراهيم - ولده - مسترضَعًا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه فيدخل إلى البيت.... قال: فيأخذه ويقبله ثم يرجع»([12]).ورآه رجل يومًا يُقبِّل بعض ولده، فقال: أتُقَبِّلون أبناءكم؟ فوالله إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم، فردَّ عليه محمد (صلى الله عليه وسلم) غاضبًا بقوله: «من لا يرحم لا يُرحم»([13]).وكان يقول عن ابنته فاطمة: «فاطمة قطعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني»([14]).وتصوَرْ معي وَقْع مثل تلك الكلمات على ابنته، وما يتلوها من محبة له وتعلق به.ويروي صاحبه البراء موقفًا آخر فيقول: رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) والحسن بن علي - حفيده - على عاتقه، وهو يقول: «اللهم إني أحبه فأحبه»([15]).إنه حب نابع من القلب، يدعو به ربه أن يحبه؛ فيكتب له من الخير ما يحب.

ونستطيع هنا أن نقول: إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كان في أُبوته حضاريًّا بكل معاني الكلمة، فلم يضغط على أبنائه ضغط المتسلطين في اختيار من الاختيارات، ولم يمثل في بيته ولأبنائه دور الديكتاتور المرهوب، ولكنه كان يوجههم عن طريق قلوبهم وعقولهم، فيستعمل معهم المحبة والإقناع بوصفهما وسيلتين مؤثرتين في تربيته، كما لم يتخلَّ عنهم في مواقفهم المختلفة؛ سواء كان ذلك في صغرهم أو بعدما كبروا، وهو في كل ذلك يعلم أن ما يفعله إنما هو أنموذج من منهج تربوي سيحتذي به الآباء من أمته من بعده.من جانب آخر فقد حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) على ألا يكون حبه لأولاده سببًا لفشلهم عندما يتركون مسئولياتهم ويعتمدون عليه اعتمادًا كليًّا في شؤونهم، بل ربَّى فيهم مسؤوليتهم الخاصة، وعلمهم أنه لن يغني عنهم شيئًا، وسبق أن ذكرنا أنه كان يقول لابنته فاطمة: «يا فاطمة بنت محمد! إني لن أغني عنك من الله شيئاً»، وفي موقف آخر تشكو له ابنته فاطمة من كثرة أعمالها المنزلية مع مرضها، وتطلب منه خادمة لها تُعينها في شأنها، فإذا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ينصحها بأن تسبح ربها ثلاثًا وثلاثين، وتحمده ثلاثًا وثلاثين، وتكبره أربعًا وثلاثين إذا أتت مضجعها للنوم، ويخبرها أن ذلك خير لها من خادم»([16]).إنه إذن والد يتصرف وفقًا لنظرية تربوية محكمة ومبادئ مقننة لا تنتقصها في حين من الأحيان عواطف الأبوة، ولا تهزها مشاعر منفردة.إننا قد نرى كثيرًا من الآباء يتحدث بكثير من الحب عن أولاده وخوفه عليهم، إلا أنه يهمل حسن رعايتهم وتربيتهم؛ فيخرجون عاقين له منحرفي الخُلُق والأفكار، إلا أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) قد أدرك هذه السقطة التربوية، فكان كثيرًا ما يقول لأبنائه: «أنقذوا أنفسكم من النار»([17]).

رعاية دائمة:

محمد (صلى الله عليه وسلم) في هذه السطور يعلِّم أمته شيئًا آخر فيما يتعلق بعلاقة الأب مع أبنائه، كونه يظل مصدرًا للعطاء بلا حدود، مهما دار به الزمن، وطالت به الأيام، ومهما كبروا هم وصارت لهم حياتهم الخاصة.فقد اهتم بأمر زواج بناته، فزوَّج الكبرى – زينب – قبل بعثته من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع، وكان رجلاً ذا مروءة وشرف، وزوَّج ابنته أم كلثوم من عثمان بن عفان، أحد أهم رجال الإسلام، ومن أحسنهم خُلقًا وحياءً، واختار لابنته فاطمة علي بن أبي طالب ابن عمه وصاحبه، وأحد الرجال المشهود لهم بالفروسية والقيادة والعلم والحكمة.ومن الملاحظ في تزويجه بناته أنه اختار لهن ذوي المروءة والخُلق الحسن، وأنه لم يهتم بكثرة مال ولا غنى، ولكنه اهتم بالخُلق، وهذه بالتحديد كانت وصيته لأمته؛ إذ يقول مخاطبًا أهل كل فتاة: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجُوه»([18]).حى إن الروايات الصحيحة تنقل لنا أن مهرًا بسيطًا للغاية قد قبله محمد (صلى الله عليه وسلم) في زواج فاطمة من علي، يحدثنا ابن عمه عبد الله بن عباس t أن عليًّا حين تزوج فاطمة -رضي الله عنها- قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أعطها شيئًا». فقال عليّ: ما عندي من شيء. قال: «فأين درعك الحُطَمِيَّة؟»، قال: هي عندي، قال: فأعطها إياه»([19]).وهذا كان دأبه دائمًا في أمر الزواج، كان يأمر بقليل المهور وقليل المتاع؛ لييسر الزواج على الشباب، لما فيه من الخير والستر والعفة والاستقامة والاستقرار والطهارة للمجتمعات، فكان ربما قبل ممن يرغب في الزواج أن يكون المهر ما معه من حفظه للقرآن وآياته.

ولم تكن بيوت بناته تسلم من الخلافات المنزلية العابرة، فكان محمد (صلى الله عليه وسلم) يرى لنفسه فيها دورًا ومسؤولية، ففي ذات يوم جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت فاطمة، فلم يجد عليًّا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: «كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ولم يقل عندي» - يعني: لم يسترح عندي وقت القيلولة - ، إنه أمر عادي يحدث بين الزوج وزوجته، ويبدو أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) قد علم به، فحاول السعي للصلح بينهما، إننا نلحظ ها هنا كيف أنه لم يسأل ابنته عن نوعية الخلاف ولا عن تفاصيله؛ احترامًا وتقديرًا لرغبة ابنته التي بدا منها عدم الرغبة في ذكر تفاصيل الخلاف، عندما قالت له: «كان بيني وبينه شيء فغاضبني»، إن هدفه هو إعادة الأجواء بينهما إلى صفوها فحسب، فقال (صلى الله عليه وسلم) لأحد أصحابه: «انظر أين هو؟» – يعني: عليًّا - فعلم أنه في المسجد، فذهب إليه محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو في المسجد راقد، فإذا به قد سقط رداؤه من شقه وأصابه تراب، فجعل يداعبه ويمازحه ويقول له: قم أبا تراب قم أبا تراب»، إنه دور الأب الذي يحمل هموم أفراد أسرته، ويباشر مشكلاتهم، ولا يتركهم إلا وقد انتهت، وعادت الأمور إلى نصابها.وفي موقف آخر ترسل إليه ابنته زينب رسولاً ليبلغه أن ابنًا لها ينازع الموت، فأثر ذلك في نفس محمد (صلى الله عليه وسلم) تأثيرًا شديدًا، فأرسل إليها رسلاً من أصحابه يعينونها على ما هي فيه، وأرسل إليها يُصبِّرها ويذكِّرها بالرضا بقضاء الله ويقول لها: «إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب».ثم ذهب إلى بيتها في جَمْع من أصحابه، فرفع الصبي إليه وكأنه يلفظ أنفاسه، ففاضت عيناه وبكى (صلى الله عليه وسلم)، فقال له أصحابه: تبكي؟! فأخبرهم أنه ما بكى جزعًا من الموت، ولا قلة صبر، ولكنه بكى رحمة ورقَّة وشفقة، وقال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، إنما يرحم الله من عباده الرحماء»([20]).وهكا كان محمد (صلى الله عليه وسلم) الأب، يحمل همّ أولاده، ويشاركهم أفراحهم، وآلامهم، ومشكلاتهم، وما أحوجهم في تلك اللحظات كلها إلى وجود والد حكيم رحيم.

مع قومه:

لقد أحب محمد (صلى الله عليه وسلم) قومه وأقاربه، وحرص على هدايتهم ودعوتهم إلى رسالته وهدايتهم، وسبق أن ذكرنا أنه وقف على الصفا ونادى قومه وأقاربه، وقال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغِير عليكم أكنتم مُصَدِّقيّ؟ فقالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك كذبًا قط، فقال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»([21]). ورغم أنهم لم يستجيبوا له، وأعرضوا عنه؛ فقد كرر محاولته معهم، ودعا بني عبد المطلب على طعام واستغل المناسبة. فقال لهم: «يا بني عبد المطلب! إني بُعثت إليكم خاصة، وإلى الناس عامة؛ فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ فلم يقم إليه أحد، فقام إليه علي بن أبي طالب وكان أصغر القوم. فقال: (اجلس) ثلاث مرات، وفي الثالثة ضرب بيده على يد علي t»([22]).لقد علَّم أصحابه أن أقاربهم وعائلاتهم مهما عصوهم وآذوهم؛ فينبغي أن يظلوا على رغبتهم في هدايتهم والدعاء لهم، ففي يوم جاءه أحد الصحابة يسمى الطفيل بن عمرو الدوسي يشكو له إعراض قبيلته دوس عنه وإيذاءهم له، ورفضهم دعوته التي هي دعوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقال لمحمد (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله! ادْعُ عليهم ليهلكوا، فرفع محمد (صلى الله عليه وسلم) يديه إلى السماء للدعاء، ثم قال: «اللهم اهدِ دوسًا، اللهم اهدِ دوسًا، اللهم اهد دوسًا، وائت بهم – يعني: مؤمنين».([23])

إنه يعلّمهم محبة أقوامهم، وعدم إضمار الشر لهم مهما فعلوا، ومهما كذبوا، بل يدعو الله لهم ويرجو الخير لهم، ويبذل المعروف لهم، فالمسلم لا يعرف الإساءة بغير حق،ولا يعرف الغدر بالناس، ومن باب أولى بعشيرته وأبناء قومه لمخالفتهم له في الرأي مهما فعلوا.وجاء رجل إليه يقول له: يا رسول الله! ادْعُ على المشركين. فقال: «لم أُبعث لعَّانًا، إنما بُعثت رحمة» ([24]).نعم! لقد دعا ربه مرة على بعض أعدائه المشركين؛ الذين فعلوا أفعالاً فاحشة فظيعة تستوجب ما هو أكثر من الدعاء، أمثال الذين غدروا بسبعين من أصحابه الآمنين العُزل الذين خرجوا يعلِّمون الناس الدين ولم يخرجوا بسلاح، حاصروهم وقتلوهم غدرًا، فدعا عليهم في صلاته.وقاتل هو وأصحابه أقوامًا أرادوا قتله واستئصاله هو وأصحابه والقضاء على رسالته، ورفعوا السلاح في وجهه ابتداءً، فدافع عن نفسه، وعن أصحابه وعشيرته ومن معهم من النساء والصبيان، و ردّ المعتدين، لكنه لم يغدر يومًا بأحد ولم يسمح بغدر ولا بانتقام أبدًا، بل كان يأمر أصحابه دومًا ألا يتعرضوا لامرأة ولا طفل، ولا شيخ ولا معتزل في صومعته، ولا يقطعوا شجرة ولا يفسدوا زرعًا ولا يحرقوا بيتًا .

العفو عن إساءتهم:

مهما تعرض إنسان من قومه لن يتعرض لمثل ما تعرض له محمد (صلى الله عليه وسلم) من قومه، لا لشيء إلا لأنه يرجو لهم الخير، ويعرض عليهم رسالة ربه الذي كلَّفه بها، ويتمنى من كل قلبه أن يشرح الله صدورهم لها، ولقد آذوه إيذاءً يصعب نسيانه ولكنه عفا عنهم، ونسي إساءتهم جميعًا.إن تناقضًا غريبًا قام به قومه معه، فهم الذين أطلقوا عليه الصادق الأمين في شبابه، والذي ما جرَّبوا عليه كذبًا ولا خيانة، وكانوا يعلمون كم هو نظيف اللسان عفّ الجوارح حَسَن الخُلق في شبابه، من العجب أن يرموه بتهمة الكذب في ادّعاء النبوة أو السحر والشعوذة بعد بلوغه الأربعين ! لا لشيء إلا لأنه يدعوهم إلى عبادة الله، ثم هم يطلقون الإشاعات عليه، ويحذرون كل داخل إلى مكة المكرمة من الاقتراب منه وسماع حديثه، بل ويمشي بعضهم وراءه يحذر الناس من محادثته، فأي ألم نفسي تعرض له منهم؟!ثم أي أَلَم أكبر من أن يأتي أحدهم، ويلقي التراب على رأسه، وهو يصلي ساجدًا، وتأتي ابنته تمسح عنه التراب بأيديها وهي تبكي فيقول لها: «لا تبكي، إن الله ناصر أباك».

وأيّ ألم أشد من أن يأتي آخر بسلاَ جَزُور، ويلقيه على رأسه وهو ساجد حتى لا يستطيع أن يرفع رأسه من هذه القاذورات التي أُلقيت عليه؟!وأي ألم أشد من أن يأتي آخر ويخنقه من رقبته حتى تجحظ عيناه ويكاد يموت؟! أي ألَم هذا الذي تألَّمه رجل مهاب كبير في قومه كانوا كلهم يحترمونه ويقدرونه ويهابونه قبل أن يهبَّ لنجدة محمد (صلى الله عليه وسلم) مما أذاه؟! وماذا دعاه (صلى الله عليه وسلم) إلى قبول كل ذاك الأذى؟ ومن أجل ماذا يعرِّض نفسه للقتل والهوان؛ إلا أن يكون أمرًا كبيرًا وشأنًا عظيمًا هو حمل رسالة جديدة لإصلاح البشرية جمعاء؟! إنهم لم يكتفوا بذلك معه؛ فقد حاصروه ومن معه في مكان ضيِّق اسمه شِعْب أبي طالب، فلا يبيعون له، ولا يشترون منه، حتى انتهى الطعام عنده وعند أصحابه، وحتى أكل هو وأصحابه ورق الأشجار، وظلت الحال هكذا ثلاث سنوات كاملة!ثم أرادوا قتله، ودبروا وخططوا لاغتياله، وجهزوا من كل قبيلة شابًا يحمل سلاحًا، فاجتمع على باب بيته أربعون شابًّا قويًّا يريدون أن يضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل، ولكن الله نجَّاه منهم؛ فمن يستطيع أن ينسى هذا؟ ومن يستطيع أن يعفو عن كل هذا؟!

وآذوه في بناته، فقبل بعثته كانت ابنتاه رقية وأم كلثوم قد عُقِدَ عليهما للزواج بعتبة وعتيبة ابني عمه، فعندما أعلن دعوته أرادوا الكيد له وإيلامه فطلقوا بناته، لا لذنب منهما ولا لذنب من أبيهما إلا أنه يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا.وأرادت زينب ابنته الكبرى أن تهاجر إليه في المدينة وركبت مسافرة، وهي حامل قاصدة المدينة فخرجوا إليها وتبعوها ووخزوا دابتها حتى سقطت من عليها وأجهضت جنينها، ووصلت المدينة في مرض بالغ حتى ماتت من جرائه، وقتلوا عمه وحبيبه حمزة يوم أحد، ومثَّلوا بجثته.وبرغم كل ما سبق من الفظائع التي تحملها منهم في نفسه وولده وأصحابه ورسالته؛ يأتي يوم الفتح يوم يدخل مكة فاتحًا منتصرًا، ومعه عشرة آلاف مقاتل ويجمع أهل مكة جميعًا فينسى كل هذه الإساءات، ويعفو عن أصحابها أجمعين، ويبدأ معهم صفحة جديدة، ويدعوهم إلى الإيمان بالله.لم ينتصر لنفسه ولم ينتقم لأبنائه ولا لزوجته ولا لعمه ولا لأصحابه ولا لتجويعه وتعذيبه وتشريده وتهجيره.

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85).

[2])أخرجه الترمذي (1899).

([3])أخرجه مسلم (2551).

([4])أخرجه البخاري (2654)، ومسلم (87).

([5])أخرجه النسائي (2562).

([6])أخرجه أحمد.

([7]) أخرجه مسلم (2548).

([8]) أخرجه مسلم (2071).

([9]) أخرجه مسلم (2552).

([10])أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).

([11])أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923).

([12]) أخرجه مسلم (2316).

([13]) أخرجه البخاري (5997)، ومسلم (2318).

([14])أخرجه البخاري (3714)، ومسلم (2449).

[15])أخرجه البخاري (3749)، ومسلم (2422).

[16]) أخرجه البخاري (3705)، ومسلم (2727).

([17]) أخرجه مسلم (204).

([18]) أخرجه الترمذي (1085).

([19])أخرجه أبو داود (2125)، والنسائي (3375).

([20]) أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923).

([21]) أخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208).

([22]) أخرجه أحمد (1375).

([23])أخرجه البخاري (2937)، ومسلم (2524).

([24])أخرجه مسلم (2599).