al_mawsuaa_maysira.jpg

كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يُوصف بالحياء، بل بشدة الحياء، حتى ضُرِبَ له المثل في ذلك،عن أبي سعيدٍ الخدري t قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أشد حياءً من العذراء في خدرها([1]).

وقد وصفه الله تعالى في القرآن الكريم بالحياء، فقال في سورة الأحزاب (الأحزاب: ٥٣).

وتروي لنا كتب السنة تفاصيل ذلك في القصة التالية:

عن أنسٍ t قال: بُنِيَ على النبي (صلى الله عليه وسلم) بزينب بنت جحشٍ بخبزٍ ولحمٍ، فأُرْسِلْتُ على الطعام داعيًا، فيجيء قومٌ فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قومٌ فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدًا أدعو، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدًا أدعوه. قال: «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاثة رهطٍ يتحدثون في البيت، فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله». فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرَّى حُجَر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي (صلى الله عليه وسلم) فإذا ثلاثةٌ من رهطٍ في البيت يتحدثون، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) شديد الحياء، فخرج منطلقًا نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أو أُخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلةً وأخرى خارجةً، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب([2]).

ويخبرنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أن الحياء ليس خاصًّا به، بل إنه من السنن التي جاء بها رسل الله جميعًا،عن أبي أيوب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح»([3]).

ويخبر عن حياء أخيه موسى - عليه السلام - بقوله: «إن موسى كان رجلاً حييًّا ستيرًا، لا يُرى مِن جلده شيء استحياء منه»([4]).

ومن حياء محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يكن يرضى أن تظهر عورته أمام الناس، وإنما وقع منه ذلك مرة وهو صغير، فلم يُرَ عريانًا بعدها،فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان ينقل معهم الحجارة للكعبة، وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة. قال: فحله فجعله على منكبيه؛ فسقط مغشيًّا عليه، فما رُئِيَ بعد ذلك عريانًا (صلى الله عليه وسلم) ([5]).

ومن حياء محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه يستحي ممن يتصفون بالحياء، فقد كان صاحبه عثمان t شديد الحياء؛ لذا كان (صلى الله عليه وسلم) يعامله بما يتناسب مع حاله،فعن سعيد بن العاص أن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنتُ عليه فجلس، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك» فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت. فقالت عائشة: يا رسول الله! ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته» ([6]).
الحياء في الحديث عما لا يحسن التصريح به:

وحين يبين محمد (صلى الله عليه وسلم) لأتباعه أحكام الدين؛ فإن هناك ما يُستحيا منه، لذا فهو يعبّر عنه بلفظ يؤدي إلى المعنى، لكنه لا يتنافى مع الحياء،فعن عائشة: أن امرأةً سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل قال: «خذي فرصةً من مسكٍ فتطهري بها».

قالت: كيف أتطهر.

قال:  «تطهري بها».

 قالت: كيف؟

قال: «سبحان الله تطهري». قالت عائشة: فاجتبذتها إليَّ فقلت: تتبعي بها أثر الدم([7]).
يأمر أمته بالحياء  (صلى الله عليه وسلم):

والحياء ليس مجرد صفة جُبل عليها محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل هي صفة محمودة في شريعة الإسلام يثني عليها محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويأمر أصحابه بالتخلق بها، فيُخبر أن الحياء من الإيمان فيقول: «الإيمان بضع وستون شُعبة، والحياء شعبة من الإيمان»([8]).

ولما كان بعض الناس يعيب صفة الحياء وينتقصها؛ فإن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن ذلك، ويخبر أنها صفة محمودة، فعن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «دعه؛ فإن الحياء من الإيمان»([9]).

ويقارن محمد (صلى الله عليه وسلم) بين الحياء وبين الفحش، فيجعل الحياء مقابلاً ونقيضًا له، ويجعله مما يزين الأمور، فيقول: «ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه»([10]).
     مفهوم الحياء:

وربما يتساءل أحد ها هنا: أليس الحياء صفة ضعف وقصور؟

أليس الحياء يمنع الإنسان عن المطالبة بحقوقه؟

أليس الحياء يمنع الإنسان عن قول ما ينبغي له أن يقوله؟

فهل كان ذلك عند محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

إن من يتأمل سيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) يرى أن الحياء الذي اتصف به ودعا إليه؛ ليس موقف الضعف والقصور، فهو لم يكن ناشئًا عن ضعف قدرة، أو قصور في التواصل،أو خجل، بل كان أمرًا يتخلق به، ويختاره عن وعي.

فالحياء لم يكن ليمنعه (صلى الله عليه وسلم) من بيان أحكام الدين للناس حين يقتضي الأمرُ ذلك، فعن حصين المزني قال: قال علي بن أبي طالب t على المنبر: أيها الناس، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «لا يقطع الصلاة إلا الحدث»، لا أستحييكم مما لا يستحيي منه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)([11]).

وحين تسأله إحدى النساء عن أمر من أمور الدين مما يستحيا منه  تعتذر عن ذلك بأن الحياء لا يمنع من التفقه في أمور الدين، فيُقِرّها (صلى الله عليه وسلم) على هذا الأمر،فعن أم سلمة أن أم سليم قالت يا رسول الله: إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غُسل إذا احتلمت؟ قال: «نعم إذا رأت الماء». فضحكت أم سلمة. فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : «فبم شبه الولد»([12]).

لقد عُنِيَ محمد (صلى الله عليه وسلم) بأن يربي الناس تربية متوازنة، فهو يعوّدهم أن يطالبوا بحقوقهم المشروعة، ولا يرى في ذلك ما يتعارض مع الحياء، ومع ذلك يؤكد على قيمة الحياء حين تكون محمودة.

إن الحياء يمنع الإنسان عن إتيان الأفعال المشينة غير اللائقة،و يقود الإنسان إلى أن يهذب ألفاظه فيبتعد عما يخدش الحياء، أو عن التصريح بما لا يليق التصريح به. وهو يمنع من المجاهرة في المجامع العامة بما يلفت أنظار الناس ويستنكرونه.

ويعبّر محمد (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المعنى، وأن من لم يردعه الحياء يمكن أن يفعل كل ما يشاء فيقول: «إن مما أدرك الناسَ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت»([13]).
الحياء من الله:

كما يبين محمد (صلى الله عليه وسلم) أن الحياء ليس فقط هو في التعامل مع الناس، بل في تعامل الإنسان مع ربه عز وجل عليه أن يستحي منه.

والحياء من الله يجعل المسلم يراقب ربه ويخشاه، ويبتعد عن معصيته، سواء أكان أمام الناس، أم كان لوحده،فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «استحيوا من الله حق الحياء». قال: قلنا: يا رسول الله! إنا نستحيي والحمد لله. قال: «ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء»([14]).

وسأله رجل من أصحابه أن يوصيه فأوصاه بالحياء من الله عز وجل وقال له: «أوصيك أن تستحي من الله عز وجل كما تستحي رجلاً من صالحي قومك»([15]).

([1]) أخرجه البخاري (3562)، ومسلم (2320).

([2]) أخرجه البخاري (4793)، ومسلم (1428).

([3]) أخرجه الترمذي (1080)، وأحمد (23069).

([4]) أخرجه البخاري (3404)، ومسلم (339).

([5]) أخرجه البخاري (364)، ومسلم (340).

([6]) أخرجه مسلم (2402).

([7]) أخرجه البخاري (314)، ومسلم (332).

([8]) أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35).

([9]) أخرجه البخاري (24)، ومسلم (36).

([10]) أخرجه الترمذي (1974).

([11]) أخرجه أحمد (1168).

([12]) أخرجه البخاري (6091)، ومسلم (313).

([13]) أخرجه البخاري (6120).

([14]) أخرجه الترمذي (2458)، وأحمد (3662).

([15]) أخرجه أحمد في الزهد، والبيهقي في الشعب.

تابعونا على المواقع التالية:

Find موقع نبي الرحمة on TwitterFind موقع نبي الرحمة on FacebookFind موقع نبي الرحمة on YouTubeموقع نبي الرحمة RSS feed

البحث

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

البحث

رسالة اليوم من هدي الرسول

-        صفته في الكتب السابقة:

روى الإمام أحمد في "المسند" عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة. وصححه ابن حبان. وورد في بعض الآثار أن ذلك من نعته في الكتب السابقة، وفي خبر المقوقس أمير الأقباط بمصر، لما أتاه كتاب رسول الله، ضمه إلى صدره وقال: هذا زمان يخرج فيه النبي الذي نجد نعته في كتاب الله (يعني الإنجيل)، قال: وإنا نجد من نعته أنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة.

في قصة قدوم وفد عبد القيس، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) رواه مسلم. وزاد أحمد أن الأشج قال: أنا تخلقت بهما، أو جبلني الله عليهما؟ فقال: (بل جبلت عليهما). قال ابن القيم: فيه مدح صفتي الحلم والأناة وأن الله يحبهما، وضدهما الطيش والعجلة وهما خلقان مذمومان مفسدان للأخلاق والأعمال، وفيه دليل على أن الخلق قد يحصل بالتخلق .

فضل المدينة وسكناها

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

برامج إذاعية